strong>«أم الثورات» تنبعث مجدداً... قوامها «الطبقات المتوسطة المطحونة»الإضرابات والتظاهرات التي تجتاح فرنسا في المرحلة الحالية، لم يعد من الممكن النظر إليها من باب صراع نقابات مع الحكومة اليمينية. ورغم أهمية هذا العامل في معركة قانون «نظام التقاعد»، إلا أن دخول الطلبة إلى الساحة أعطى للتظاهرات بعداً آخر. بدت الحركة أنها في إطار «صراع أجيال»، ولا سيما أن التململ بات واضحاً على ألسن الشبان الفرنسيين المبعدين عن المشاركة في اتخاذ القرار. شبّان فرنسا باتوا اليوم قدوة لأترابهم الأوروبيين، الذين تشير المعطيات إلى أنهم بدأوا بفتح خطوط تنسيق مع باريس للاستفادة من التجربة ونقلها إلى حركات الاحتجاج، لكن من دون الطابع العنفي الذي يشوّه حالياً الحركة الشبابيّة

باريس ــ بسّام الطيارة
تبدو فرنسا اليوم كأنها اعتادت نمط الإضرابات، حتى إن التظاهرات باتت تذهب في اتجاهات معروفة مسبقاً، فتمر مرور الكرام من دون ازدحامات. شبكة المواصلات تعمل ببطء ولكن بانتظام، وبدأ المواطنون يأخذون احتياطاتهم. فرغم إقفال ما بين ٣ و٤ آلاف محطة وقود، فإن الوقود يبدو متوافراً بنحو عجيب وغير مفهوم. نسبة كبيرة من الفرنسيين تؤيد الإضراب، ونسبة كبيرة منهم تتذمر من استمرار الإضراب. لا تناقض في ذلك ولا اختلاف على ضرورة إصلاح نظام التقاعد، ومع ذلك فإن الوضع يبدو متوتراً على الصعيد السياسي. ورغم لفتة رئيس الوزراء فرانسوا فييون الأخيرة إلى «ضرورة الجلوس مع الشركاء النقابيين للعمل على وضع إجراءات تطبيقية للقانون الجديد»، إلا أن هوة سياسية كبرى لا تزال قائمة بين شريحة واسعة من الفرنسيين والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. شريحة باتت اليوم تمثّل عاملاً لا يمكن تجاوزه، لا من اليمين ولا من اليسار ولا من النقابات.
اليمين يتخوّف من انعكاسات التصلّب على جناح الوسط فيه الذي يمثّل بيضة قبان أي معركة انتخابية. واليسار الكلاسيكي يخاف أن تقطف أجنحة اليسار المتطرفة ثمار المعركة، والجميع خائف من ثورة طالبية تخلط كل الأوراق كما كانت الحال في أيار ١٩٦٨ حين شهدت فرنسا ثورة قلبت المعايير والمفاهيم وجرفت في سياقها الجنرال شارل ديغول وطاقم سياسيي ما بعد الحرب.
واليوم يمكن أي مراقب أن يتحسّس وجود جمر تحت رماد الحركة الطالبية يمكن أن يفضي إلى ثورة تطيح الطاقم السياسي الكلاسيكي الذي تتراوح أعمار ممثليه بين العقد السادس والسابع، لتفتح الطريق أمام «الشباب».
ينظر فرديريك ملياً قبل أن يجيب عن أهداف التحرك الطلابي. تنتظر أن يكون الجواب في إطار الضمان الاجتماعي أو إصلاح النظام التربوي، إلا أنه يأتي في سياق «صراع أجيال». ويشير الطالب ذو الـ٢٠ عاماً في السنة الثالثة علوم سياسية «انظر إلى طوني بلير عمره خمسين عاماً وهو متقاعد، وهو كان في الصف الابتدائي حين بدأ (جاك) شيراك مساره السياسي». ينظر إلى المتحلّقين حولنا ويتساءل بصوت عال نسبياً «هل يترك الطاقم السياسي مجالاً لنا نحن الشباب للاهتمام بشؤون البلد؟». همهمة موافقة تأتي من حوله. الجميع علّق على صدره بطاقات بيضاء كتب عليها «صراع الطبقات»، إلا أن المطالب التي تتدافع في أفواه «الشباب» لا تقارب الصراع الطبقي القديم، بل «صراع طبقات متوسطة» مطحونة تتحمل كل المجهود الضرائبي ومجهود النهوض باقتصاد البلد والعمل اليومي للوصول إلى الضوء الذي تحتله طبقة «النظام السياسي يميناً ويساراً». تصرخ إفلين من وراء رؤوس أصدقائها «قولوا لساركوزي إننا ننهض باكراً ولسنا كسالى».
أمس كان يوم الطلاب من دون شك. التجمع كان في الحي اللاتيني، و«أجواء العيد» كانت تظلل الجموع الملونة التي كانت تخرج من أفواه مترو الأنفاق في ساحة جوسيو تحت أقدام برج جامعة العلوم الشهيرة. الشرطي يقف في الصف مثله مثل الطلبة لشراء ساندويش مقانق يبيعها «شاب من الضواحي» اغتنم فرصة التظاهرة لـ«ربح بضع عشرات من اليورو». مجموعة من الغجر تحاول بيع صحف مجانية مقابل يورو والجميع يبتسم لهم. رائحة الطعام تملأ الأجواء والجميع يضج بين شعار يطلق من هنا وتصفيق يرتفع من هناك. اتخذ مصوّرو تلفزيونات العالم من رصيف قرب مدخل «مكتبة ابن سينا» العربية الشهيرة منصة لإجراء المقابلات. ست حافلات تنظيف خضراء تنتظر انطلاق التظاهرة لتكنيس الشوارع من ورائها. الطقس جميل والشمس مشرقة: «إن الله يحب الشباب»، تقولها امرأة في خريف العمر يبدو عليها الانشراح من أجواء الشباب التي تحيط بالحي. «ألا تخافين؟»، تضحك قليلاً قبل أن تجيب «لقد شاركت في أيار ٦٨. أحب الطلبة، إنهم مستقبل فرنسا». تتردد قليلاً ثم تقول ولكن «الخطر يأتي من المخربين».
بالفعل لولا التكسير والعنف «بلا مقابل»، لكان يمكن القول إن فرنسا تعيش «أجواء كرنفالية». حتى سدّ الطرقات ومحاصرة محطات التكرير أو قطع طرق المطار تحصل «بتفهّم تام»، إلّا أن حرق سيارات المواطنين وتحطيم واجهات المحال هما أكثر ما يشوّه هذه التعبئة اليوم. وقد أسهم هذا التشويه في تسهيل عمل ساركوزي ووزير داخليته بريس هورتوفو اللذين بدآ بشمل كل المشاركين باتهامات القيام بعنف في الشوارع، وهو ما يراه البعض «استعمالاً سياسياً للعنف»، إذ من المعروف أن «شباب الضواحي الذين ينزلون إلى المدن، وخصوصاً باريس وليون ومارسيليا، عندهم حسابات قديمة يريدون تصفيتها مع ساركوزي منذ عام ٢٠٠٥». هذا الحديث لا يتردد الطلبة في ترديده وهم ينظرون بريبة إلى كل من «يضع قناعاً على وجهه وجيوبه منتفخة بالحجارة».
وقد كشفت وزارة الداخلية أن ٦٠ في المئة من نحو ألف مشاغب قبض عليهم في اليومين الأخيرين «معروفون من دوائر الأمن»، أي إنهم ذوو سوابق.
السؤال اليوم الذي ينتظر التصويت على القانون صباح السبت هو «ماذا سيحصل بعد عيد جميع القديسين؟ هل يعود الطلبة إلى الشارع؟». من الصعب الإجابة، إلا أن استمرار الإضرابات منذ أسبوعين خلق نوعاً من «الدورة الدينامية». وخبر الشباب الفرنسي تجربة جديدة، وباتت أعين الشباب الأوروبي تلتفت إلى باريس، لا عبر نشرات الأخبار فقط، بل عبر مواقع الإنترنت الاجتماعية. ويرى بعض المراقبين إمكان أن «يحصل تنسيق بين الشباب الأوروبي» مشابه لما يحصل عشية لقاءات القمم الاقتصادية والمجابهات مع مناهضي العولمة. ولعل تسلّم الرئيس ساركوزي، الذي أعلن مراراً «كرهاً لأيار ٦٨»، زعامة قمة الـ٢٠ بعد أسبوعين، قد تفتح شهية الشباب لجولة جديدة تسلّط الأضواء على فرنسا وتعيد إليها لقب «أم الثورات».


ألفا معتقل

اتّسمت الاحتجاجات أمس بالهدوء، باستثناء عنف متقطع في مدينة ليون في جنوب شرق البلاد وفي ضاحية نانتير في باريس، حيث اندلعت اشتباكات بين المتظاهرين وشرطة مكافحة الشغب. وقالت وزارة الداخلية إن 245 شخصاً اعتقلوا، ليصل الإجمالي إلى نحو ألفين منذ 12 الشهر الحالي.
واضطرت الشرطة إلى استخدام الغاز المسيل للدموع، فيما كان المتظاهرون يحطمون السيارات. وبقيت شوارع التسوّق فارغة تقريباً، حتى إن المطاعم أبقت الطاولات والكراسي في الداخل خشية الاشتباكات.
وفي مارسيليا، تدخلت الشرطة لفكّ الحصار عن مطار المدينة بعدما قطع المئات من عمال المصافي المضربين الطريق المؤدي إلى المطار في الساعات الأولى من اليوم. كذلك أغلق المتظاهرون بسياراتهم وشاحناتهم خطوط القطارات والطرق السريعة.
وقال الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إن الكلمة الأخيرة لن تكون لمثيري الشغب، في إشارة إلى التصويت المرتقب على قانون التقاعد غداً السبت. واتهم المضربين بـ«أخذ الاقتصاد والأعمال التجارية والحياة اليومية رهينة»، واضعاً المضربين عموماً في خانة «المشاغبين».