Strong>نصف فقراء العالم يعيشون في المدنلا وطن للفقر، ولا حدود جغرافية تضبط انتشاره وتمدّده، سواء في الأرياف أو في المدن، التي باتت تحوي نصف فقراء العالم، بحسب تقرير دولي جديد. فمن كان يظن أن المدن الكبيرة والمتقدمة معزولة عن ظاهرة الفقر المدقع عليه أن يراجع حساباته، ومن كان يعتقد أن النسبة الأعلى للفقراء موجودة في الأرياف والمناطق النائية لا بد أن يغيّر معتقده. فالمدن باتت الحاضن الأكبر للفقر والبيئة الأمثل لانتشاره، وخصوصاً في ظل الأنظمة الرأسمالية البحتة، حيث لا مكان للمساعدات الاجتماعية ولا للضمان الصحي. نيويورك قد تكون النموذج الأمثل للمدينة اللامعة والغنية التي تخبّئ بين أحيائها مستوطنات للفقر

نيويورك ــ نزار عبود
تشان شاب صيني يبلغ من العمر 28 عاماً، يقيم في شقة في الطبقة السادسة من مبنى في الحي الصيني في جنوب حي مانهاتن الغني في نيويورك. الشقة التي تبعد أمتاراً عن حي «إيطاليا الصغيرة» الحالم، مؤلفة من غرفة نوم واحدة لا تتجاوز مساحتها عشرة أمتار مربعة، وهناك مطبخ صغير بمساحة مترين ونصف متر، وحمام أضيق من ذلك مساحة. هذا كل ما سمحت به الحياة له، في إحدى أغنى مدن العالم وأغلاها، للإقامة إلى جانب والده ووالدته المسنين، وشقيقته المراهقة. الصعود إلى الشقة يكون من دون مصعد، على أدراج حديدية. والنوم فيها يتوقف على مدى قدرة تشان وأسرته على التعايش مع الضوضاء الشديدة في حي ينام فيه السكان بالدور. كل شيء في المبنى يشكو من التلوّث، بل من القذارة. مع ذلك، لا يملك تشان سوى التحمّل في الشقة التي لا يكاد يفارقها على مدى 24 ساعة في اليوم، لأن كسب عيشه أيضاً يحصل من داخلها.
إنه ليس لاجئاً غير شرعي، فهو يحمل الجنسية الأميركية منذ خمس سنوات. وهو متعلم ومتخرّج في جامعة أميركية ومتخصص في الهندسة الإلكترونية. لكنّ العوائق الكثيرة تمنعه من تحقيق الحلم الأميركي، رغم قرب مسكنه من حي المال الأكبر في العالم، وول ستريت. من حوله غابة من مباني الشركات التي تتخلص من موظفيها بوتيرة سريعة وتنشر الفقر في كل اتجاه.
لذا لم يجد تشان مناصاً من العمل من خلال المنزل في إصلاح أجهزة الكمبيوتر للأفراد من على منضدة في مطبخه، وقد وضع كل معداته الإلكترونية على رفوف إلى جانب أدوات المطبخ. يعمل ليل نهار والقلق يساوره من عدم التمكن في نهاية الشهر من دفع إيجار الشقة التي يقطنها، الذي يزيد على ألف دولار. إنه مبلغ باهظ لأمثاله، حتى ولو كان يعمل في نيويورك. زبائنه في غالبيتهم من منخفضي الأجور، لأن الأغنياء لا يصلحون حواسيبهم المستعملة. تجده يتحمّل كل شيء ويمضي ساعات طويلة من العمل المضني، لأن البدائل تكاد تكون معدومة. والفقر ليس كل ما يعانيه، بل هناك ما هو أخطر، إنها الأوضاع الصحية. كل ما يحيط بتشان وأسرته يهدد الصحة، سواء القذارة في المبنى القديم الذي تسرح فيه الفئران والصراصير، أو سوء التغذية، لأن الفواتير تلتهم معظم الإنتاج ولا يبقى لديه سوى ما يكفي لشراء فضلات بسطات الخضر. لأمثاله الحبوب المسكّنة هي كل ما يحصل عليه لوالده العجوز عندما يمرض. أما هو، فليس مسموحاً له بالمرض.
أمثال تشان ليسوا من شخصيات تشارلز ديكنز البريطانية، بل هم كثر، ومن مختلف الجنسيات، ويعدّون في نيويورك وحدها بالملايين. تجد حامل شهادة دكتوراه يبيع السندويشات في ساعة متأخرة من الليل على قارعة الطريق في ساحات عامة، في درجة حرارة تحت الصفر.
الوضع في نيويورك ليس فريداً، بل إنها حالة تتفشى في شتى مدن العالم، من دون تمييز بين أفريقا وأميركا وآسيا، حسب تقرير جديد صدر أول من أمس عن الأمم المتحدة يتحدث للمرة الأولى عن الفقر في المدن وعلاقته بتفشّي الأمراض. تقرير يدعو أصحاب القرار إلى توجيه الأنظار نحو سكان المدن الأكثر عوزاً وتحسين أوضاعهم المعيشية. يحمل التقرير عنوان «المدن المخفاة: الكشف عن الظلم الصحي والتغلّب عليه في الأوساط المدنية». أُطلق التقرير في مدينة كوبه اليابانية حيث أمضى رؤساء حكومات وأساتذة جامعات وممثّلون عن منظمات أهلية ثلاثة أيام يناقشون كيفية تحسين أوضاع سكان المدن المعيشية والصحية.
التقرير القائم على تحليل جديد ينظر إلى ما هو أبعد من المعلومات العامة عن المدن، ليحدد مواطن الحرمان والعلل الصحية في أحيائها الداخلية وفي ضواحي البؤس. أعدّته منظمة الصحة العالمية وبرنامج الاستيطان التابع للأمم المتحدة (هابيتات). وقالت مديرة منظمة الصحة العالمية، مارغريت تشان، في المؤتمر «المفهوم الذي يعالج منه التقرير أوضاع سكان المدن يكشف الهوة الصحية بين السكان وينبه المسؤولين إلى الأماكن التي ينبغي أن يركزوا انتباههم عليها».
إلى جانب البؤس الحضري الذي يتجلى في المسكن الضيّق والدخل المحدود وسوء التهوية العامة والتلوث البيئي من كثرة السيارات، وجد الباحثون أن نسبة وفيات الولادات والأطفال لدى سكان الأحياء الفقيرة أعلى بنسبة ضعفين منها لدى سكان الأحياء الغنية. وتنخفض نسبة المتلقّين لرعاية الولادة بين فقراء المدن إلى ما دون 45 في المئة ممّا يتلقّاه الميسورون فيها.
ويمضي التقرير إلى توجيه الانتباه إلى عدة عوامل تؤدي دوراً في تعزيز البؤس بين سكان المدن، وهذه تشمل آلية حركة السكان، وأسلوب الإدارة والحكم في المدن، والفرق بين البيئة الطبيعية والبيئة العمرانية، وأخيراً ظروف البيئة الاجتماعية والاقتصادية وأسلوب معالجة الحالات الطارئة فيها ومدى القدرة على نيل الخدمات الصحية العاجلة.
الأشخاص من أمثال تشان في الحي الصيني من نيويورك لا يحلمون بالحصول على علاج في مستشفيات، لأنه خارج قدراتهم المالية، وليس هناك من نظام رعاية صحية حتى الآن يشملهم. أما التأمين الصحي الخاص فكلفته عالية إلى حدّ يكون معه الموت أسهل لهؤلاء الفقراء. فكلفة الليلة الواحدة التي يقضيها مريض في مستشفى أميركي تعادل إيجار شقة تشان لعام كامل.
ورغم أنه كان يفترض بتكنولوجيا المعرفة إلغاء المسافات وجعل أصحاب الكفاءات قادرين على تأدية وظائفهم من أي مكان دون الحاجة إلى الإقامة في أحياء المدن الفقيرة المكتظة، إلا أن أمثال زبائن تشان لن يغامروا في إرسال أجهزتهم بالبريد وتحمّل نفقاته. وبعيداً عن نيويورك وطوكيو، لا يتوقع سكان الأحياء الفقيرة في غالبية مدن العالم الحصول على خدمات اتصالات يعتمد عليها بكلفة معقولة. بالتالي، كان على تشان الإقامة قرب زبائنه مهما كانت التبعات. وضع جعل نصف سكان العالم تقريباً يعيشون في المدن وضواحيها.


الماء يزيد المأساة

الحصول على مياه الشفة من العوامل الكبيرة المؤثرة على مستوى المعيشة والظروف الصحية. وفي هذا المجال يقول تقرير منظمة الصحة إن وصول المياه إلى حنفيات المساكن تحسّن كثيراً عمّا كان عليه قبل عقدين من الزمن. غير أن ذلك لا يزال متفاوتاً بين قارة وأخرى، ويتجلى بوضوح في الأحياء، بناءً على أسس طبقية. وبالتالي يؤدي نقص الماء دوراً سلبياً إضافياً في مأساة فقراء المدن. هذا التفاوت الطبقي كان وراء استيطان أمراض كثيرة، حتى في الدول الغنية، حسب استنتاجات واضعي التقرير، إذ أرجعوا عدم قدرة الدول الأكثر ثراءً في العالم على التخلّص تماماً من أمراض مثل داء السلّ، إلى تفاوت مستويات المعيشة داخل المدينة الواحدة. اليابان مثلاً تعاني كثيراً من هذا الداء، ولا سيما في المدن الكبرى مثل أوساكا، التي تقطنها طبقة عاملة كبيرة تعمل في المصانع المنتشرة فيها.
وفي نيويورك تعاني الأحياء الفقيرة، مثل هارلم وبرونكس، من تردّي الأوضاع الصحية وتفشّي الأمراض. والسبب الرئيسي لذلك يعود، إلى جانب الفقر، إلى غياب الرعاية الصحية شبه التامة من جانب الدولة. تشان وأمثاله يبذلون الكثير ويسهرون من أجل لقمة العيش، لكنّ مشاق الحياة في المدن أكبر من طاقتهم ولا ترحم الضعفاء الذين يصيبهم المرض.