strong>قناع «محافظين جدد» يظلّل ذكرى «رجل فرنسا الكبير»لم ينكر يوماً الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي «كرهه» لأحداث أيار ١٩٦٨، أي ثورة ربيع الشباب التي غيرت وجه فرنسا. ويربط ساركوزي موقفه من الثورة بموقعه السياسي في العائلة الديغولية، على أساس أنها «أطاحت» الجنرال شارل ديغول ودفعته للاستقالة، رغم اتفاق الفرنسيين على أن ديغول هو مؤسس فرنسا الحديثة. أي «الدولة الراعية المركزية اليعقوبية» التي تحسدها كل الدول على نظامها الاجتماعي والتربوي والصحي وسلاسة نمط الحياة فيها بما يجعلها «قبلة» المهاجرين. غير أن ساركوزي لم يكفّ منذ وصوله إلى الإليزيه عن محاولة إحداث تغييرات في فرنسا تنزع عنها وجهها الديغولي وتلبسها قناع «محافظين جدد»

باريس ــ بسّام الطيارة
يأخذ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي من إرث شارل ديغول ما يروق له ويترك ما لا يعجبه. لم يفوّت ساركوزي فرصة ذكرى رحيل «رجل فرنسا الكبير»، وفضّل الوصول متأخراً إلى قمة مجموعة العشرين في سيول العاصمة الكورية، لحضور الاحتفالات الأربعين لرحيل ديغول في كولومبي لي دو زيكليز، قبل أن يستقلّ طائرته الجديدة «إير ساركو وان»، كما أطلقت عليها الصحافة، ليلتقي كبار العالم.
لا يمكن إهمال كون ساركوزي دخل حركة الشبيبة الديغولية في مطلع عمره، وكان أحد الناشطين في التظاهرات المضادة لحركة أيار 1968 والمؤيدة لديغول.
في ذلك العام أبدى ساركوزي اهتماماً بالذكرى و«الحج» إلى مسقط رأس ديغول، ووقف أمام ضريحه واستعار جملاً من معجم مصطلحات الديغولية، وخصوصاً الصيحة الشهيرة «لقد نادتني فرنسا لأقودها لا لأسهر على نعاسها». إلا أن ذلك ليس إلا ضمن موجة «الركوب على الديغولية» التي لا تقتصر على اليمين الديغولي، بل باتت تصبغ التوجهات السياسة قاطبةً من أقصى اليمين إلى أبعد فرق اليسار. كلٌّ يرى في ديغول ما يناسب طروحاته.
في الواقع، يمكن القول إن الجنرال الكبير استطاع استيعاب كل التناقضات الفرنسية واستعمالها في خط مسار سياسي لا يأخد في الحسبان إلا «مصلحة فرنسا العليا من وجهة نظره الشخصية فقط لا غير»، معتمداً على «هالة المقاومة» التي أطلقها للتصدي للغزاة النازيين حين طأطأت الطبقة الحاكمة رأسها وانصاعت للهزيمة.
هذا الحدث البارز، والذي يمثّل معلماً من معالم نهضة فرنسا في العصر الحديث، لا يستطيع أي فريق إنكاره، ويمثّل اليوم جامعاً للّبنة الوطنية الفرنسية، وخصوصاً أن مسيرة «رجل ضد الجميع» الذي يستطيع أن يقول «لا لن أستسلم للقوة» تذكّر بمآثر تاريخية سابقة، لعل أبرزها «نهوض جان دارك» لإنقاذ فرنسا من الاحتلال الإنكليزي في نهاية حرب المئة سنة.
هذه صورة ديغول التي لا يختلف عليها كائنان في المشهد السياسي الفرنسي. لكن الدخول في تفاصيل مواقف ديغول السياسية ومسارها يبرز «موزاييك واسعاً» يغطي كل ألوان قوس قزح السياسة الفرنسية، يرضيها كلها ويستفزها كلها في آن واحد.
بعد انتهاء الحرب وإعلان «النصر» كوّنت سرايا اليسار بكل تشعباتها، وخصوصاً الحزب الشيوعي الفرنسي، سنداً قوياً لمن وقف في وجه الغزاة وتعاون مع ستالين ومدّ يده بعد سنوات إلى ماو تسي تونغ وانسحب من الحلف الأطلسي وزار موسكو وبكين وندد بسياسة الدولار، قبل أن «يقبل» باستقلال الجزائر.
إلا أن دعم اليسار لديغول تحول من العلن إلى السر مع الوقت. وخفتت الأصوات المؤيدة له ليصبح دعماً «تاريخياً بسبب نضال المقاومة المشتركة». إذ إن ديغول لم يكن في وارد إعلان «الأممية الرابعة»، رغم أنه أمم الشركات المالية الكبرى وصادر المصانع التي تعاونت مع المحتل ووضع فرنسا على سكة «الدولة المركزية» وأعلن ورشة إعمار دعمتها الحكومات المتعاقبة.
كان موقف الاشتراكيين أكثر التباساً. فعدد كبير منهم كانت لديه مواقف ملتبسة إبان الاحتلال قبل أن يبان خيط الانتصار الأبيض من خيط الهزيمة الأسود، ومعهم الرئيس السابق فرنسوا ميتران، الخصم السياسي الأكبر لديغول، الذي شكك كثيرون بمواقفه «المتعاونة مع الاحتلال» قبل أن يخوض تجربة المقاومة. أضف إلى ذلك، أن ديغول انسحب من الحياة السياسية أول مرة (من ١٩٤٨ إلى ١٩٥٨) بعدما خذله البرلمان الذي كان فيه للاشتراكيين دور مهم، قبل أن يعود إلى الحكم ويضع دستوراً جديداً ينتخب بموجبه الرئيس مباشرة من الشعب، ما يترك له حرية الخيارات الكبرى.
وعلى هذا الأساس أطلق ديغول عنان «المشاريع الكبرى» (طائرة الكونكورد، القطار السريع، البرنامج النووي الفرنسي، حاملات الطائرات، والسكن الشعبي) التي وفّرت عملاً لملايين العمال وفتحت أبواب استقدام العمالة الأجنبية. رغم هذا واظب ديغول على «منظور يعقوبي» للدولة يقوم على مركزية القرارات الاقتصادية، وعلى تأميم للمصارف وشركات التأمين مع رقابة نقدية لـ«عملة وطنية» محظور تصديرها لـ«درء هجمة الرأسمال العالمي» وحماية فرنسا.
كل هذا أسس لشرخ في اليمين الفرنسي الداعم مبدئياً لزعيمه، إلا أن ديغول لم تكن تغيب عنه رغبة هذا اليمين، الذي وصفه بأنه «أكلة الجبنة»، بالطعن به وبإنجازاته ما أن تسنح له الفرصة. بهذا يمكن تفسير التحول في زمن جورج بومبيدو. وبهذا يمكن فهم المنعطف الذي أخذه جيسكار ديستان بالابتعاد عن السياسة الديغولية الاقتصادية. وفي مطلع حكم «الخصم السياسي ميتران»، على غرابة المقاربة، حاول الاشتراكيون المدعومون من الشيوعيين «العودة لمسار اقتصادي ديغولي»، فأعادوا تأميم «نصف ما خصصه اليمين»، قبل أن يرتدّوا ويعودوا إلى طريق الليبرالية المعولمة. جاك شيراك لم يبتعد عن الخط الميتراني الذي لا يموت فيه ذئب الليبرالية ولا تفنى فيه أغنام النفحة الديغولية.
أما ساركوزي، الذي يصفه الديغوليون بـ«الوصولي»، فقد انتهز وصوله إلى الإليزيه لتفكيك أوصال ما بقي من الإرث الديغولي وقضى على فلوله وبات يقضي معظم أوقاته بمطاردة شراذم الديغولية. ولعل أبرز هذه المطاردات مشهد «صراع الديوك» بينه وبين دومنيك دو فيلبان في إطار دعوة كليرستريم، بعدما قيّد شيراك في أغلال سلسلة ملفات فساد أمام القضاء.
وحملت التظاهرات التي شهدتها فرنسا منذ وصول ساركوزي إلى الحكم، وخصوصاً التظاهرات الأخيرة للاحتجاج على «إصلاح النظام التقاعدي»، الوصف لفعلة ساركوزي بالإرث الديغولية. يضاف إلى ذلك التوجه العام نحو «أطلسية» في السياسة الخارجية منذ مطلع عهد شيراك كان آخرها عودة فرنسا من دون أي مقابل إلى الحلف الأطلسي.


عشق في غير محله

يعشق العرب الجنرال ديغول. ويعود هذا الولع إلى «بعض كلمات تفوه بها الرجل الكبير بعد حرب ١٩٦٧» يُضاف إليه إرث مقاومة الاحتلال النازي الذي التصق باسمه، إلا أن «التنقيب» في مقولات ديغول تفيد بأن ابن الشمال المحافظ حمل معه طيلة حياته الطباع الكاثوليكية ومزايا «القناعات الأوروبية البيضاء». صحيحٌ أنه وصف يوماً الشعب اليهودي بأنه «شعب مُختار معتدّ بنفسه ومهيمن» قبل أن يضيف عقب انتصار حرب الأيام الستة «بعد أن لمّ شمله على أرض مجده الغابر، تبدلت تطلعات دهرية وانقلبت طموحاته وبات شعباً غازياً». صفق له العرب في هزيمتهم. إلا أن هؤلاء غاب عنهم ما سبق أن قاله حين سئل عن العرب قبل الخروج من الجزائر، قال: «نحن رغم كل شيء شعب أوروبي من العنصر الأبيض المسيحي ذو حضارة إغريقية ولاتينية». ووصف امتزاج العرب بالفرنسيين بالمحاولة العقيمة لمزج الزيت بالماء، وأنهى بأنه إذا سمح للجزائريين بالمجيء بحرية إلى فرنسا فإن اسم مسقط رأسه «سوف يتغير من كولومبي لي دو زيكليز (أي عمارة الكنيستين) إلى كولومبي لي دو موسكيه (أي عمارة المسجدين)». وهذا بسيط مقارنة بوصفه الأفارقة بالـ«عبيد» والطلب من مساعده جاك فوكار «الكف عن دعوة العبيد الذين يملأون الإليزيه».