تبدو وتيرة الأحداث في ساحل العاج تسير باتجاه تصعيدي، ولا سيما بعد زيارة الرؤساء الأفارقة الثلاثة، التي يبدو أنها فشلت في إقناع لوران غباغبو بالتنحي. فشل قد يؤدّي، بحسب التحذيرات العاجية، إلى حرب إقليمية تؤدي فرنسا دوراً رائداً فيها

فرنسا رائدة الإعداد للحرب الأفريقيّة المقبلة




يبدو من باريس الصراع الدائر على السلطة في ساحل العاج كأنه تكملة للتنافس بين اليمين واليسار الفرنسيين على ما يسمى «فرانس ـــــ أفريقا»، وهو التوصيف الذي يشار به إلى «حلقات النفوذ السياسية والاقتصادية والدبلوماسية» التي تمسك بمقاليد شبكة مصالح فرنسا في أفريقيا الغربية.
ومن طرائف الصدف التاريخية أن مطلق هذا التعبير عام ١٩٥٥ هو أول رئيس جمهورية لساحل العاج، فيليكس هوفويه بوانيي، للتعبير عن رغبة بعض الزعماء في إبقاء علاقات وطيدة مع «الأم الحنون فرنسا» رغم الاستقلال.
وإلى جانب الدبلوماسية العلنية، كان لكل عهد رجل يعهد له بإدارة هذا الشق المظلم من العلاقات مع القارة السمراء، إلى جانب ملفات التعاون العسكري وصفقات السلاح وحفظ مصالح الشركات الفرنسية الكبرى، في مكاتب لصيقة بقصر الإليزيه. وفي عهد الرئيس الحالي نيكولا ساركوزي، فإن «رجل أفريقيا اليوم» هو اللبناني الأصل روبير بورجي.
تفسر شبكة المصالح التي تربط فرنسا بأفريقيا «الموقع المتقدم» لباريس في هذه الأزمة. إلا أن عنصراً جديداً دخل المعادلة التاريخية اليوم، هو «اقتحام واشنطن لهذا المربع الفرنسي»، كما يقول أحد الخبراء المتابعين. يضاف إلى ذلك عامل آخر لم يكن الفرنسيون ينظرون إليه كعامل منافس قبل وصول الأميركيين، هو «العامل الإسرائيلي»، الذي بات يعمل بقوة وزخم «لدى الطرفين»، كما يقول دبلوماسي أوروبي.
ويبدو حسب المعلومات المتسربة من مصادر عدة أن باريس قد قبلت بأن يكون «صندوق النقد الدولي» «مظلة» عمل القوى الغربية، بعدما كان فرنسياً حصرياً، وقد أسهم وصول ساركوزي إلى الإليزيه بالذهاب بعيداً في هذا الاتجاه، ما سبب بعض التململ في أوساط الكي دورسيه وبعض أوساط رجال الأعمال.
يكفي الالتفات إلى «تاريخ الرئيسين المنتخبين» (لوران غباغبو والحسن واتارا) لقراءة كيفية تراجع الدور الفرنسي وتقدم الدور الأميركي تحت راية صندوق النقد الدولي، بسبب الخلافات السياسية الداخلية الفرنسية. لوران غباغبو النقابي اليساري الماركسي كان من أكبر معارضي الرئيس السابق هوفويه بوانيي. وعرف غباغبو المنفى الفرنسي، حيث بنى علاقات قوية مع الاشتراكيين قبل أن يعود ويسمح له بالعودة إلى البلاد والترشح (عام ١٩٨٨) ضد الرئيس التاريخي، وحصل يومها على 18.6 في المئة من الأصوات، ما جعله في مصاف المعارض الأول لبوانيي.
في الحقبة التالية، كان الحسن واتارا «المدير العام السابق لصندوق النقد الدولي» قد عين في منصب رئيس الوزراء وكلف مهمة «إمرار قرار خفض قيمة الفرنك الأفريقي». وقد أدت الإجراءات التقشفية إلى نزول العاجيين إلى الشارع في تظاهرات قُمعت، وفي سياقها اعتُقل غباغبو وحكم عليه بالسجن سنتين قبل أن يعفو عنه الرئيس.
ويرى البعض أن صراع اليوم هو امتداد للتنافس السابق الذي كان وراء انطلاق شرارة الحرب الأهلية في عام ٢٠٠٢ من الشمال. إذ إن غداة وفاة بوانيي عام ١٩٩٥ حاول غباغبو «كسر» الانتخابات الرئاسية، إلا أن «مرشح الاستمرارية» هنري بيديه وصل إلى سدة الرئاسة في ظل مقاطعة عدد كبير من العاجيين للانتخابات، وحصل على «بركة القوى الكبرى».
في الانتخابات التالية عام ١٩٩٩، انتُخب غباغبو رئيساً بعدما منعت لجنة الانتخابات واتارا من الترشح بحكم «أن دمه ليس عاجياً صافياً»، في إشارة إلى أصول عائلته من بوركينا فاسو، الجارة المؤثرة في الشمال. وهو ما قاد إلى انتفاضة عسكرية «جاءت من الشمال» عصفت بالبلاد، وكانت نتيجتها إرسال قوة دولية أفريقية لبست قبعات الأمم المتحدة الزرقاء بعد توقيع اتفاق «ماركوسي» في فرنسا، الذي قضى أيضاً بإرسال قوة فرنسية تحت تسمية «ليكورن» قوامها ٩٠٠ جندي.
ويتهم مقربون من غباغبو الفرنسيين «منذ تلك اللحظة» بالعمل على «تنصيب من كان وراء الانتفاضة العسكرية»، وهو ما سبب إشكالات عديدة بين مناصري غباغبو والجيش الفرنسي، كان أبرزها «قصف الطيران العاجي لقاعدة فرنسية» بحجة مساعدة المتمردين، وجاء الجواب الفرنسي بقصف «أطاح كل مقومات الطيران الحربي العاجي».
يرى عدد من العاجيين المؤيدين لغباغبو أن الاعتراف الدولي بالحسن واتارا، إضافة إلى تعليق الاتحاد الأفريقي لعضوية ساحل العاج، يأتي ضمن «مؤامرة أجنبية» تسعى إلى وضع «رجل صندوق النقد الدولي» في سدة الرئاسة. ويشير عدد منهم إلى «العلاقة الخاصة» التي تربط بين ساركوزي وواتارا.
وعلمت «الأخبار» من مصادر مقربة من غباغبو أن هذا الأخير رفض، أمس، تسلم كتاب من وفد المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «إيكواس» (رؤساء كل من سيراليون والرأس الأخضر وبنين) الذي يدعوه إلى «التنحي وإلا واجه القوة»، وأنه اتهمهم بـ«الانصياع لأوامر صندوق النقد الدولي، وهو ما دفعهم إلى المغادرة السريعة لساحل العاج، ما ينبئ بتطورات تصعيدية قريبة.
ويساهم ترويج هذه التسريبات في زيادة لحمة مؤيدي غباغبو و«تبريد حماسة مؤيدي واتارا». وقد يفسر هذا «فشل الإضراب العام» الذي دعا إليه الأخير. ويلعب مؤيدو غباغبو على «أوتار الوطنية العاجية» ويتحدثون عن خطر تدخّل «مؤسسة دولية بالقوة لفرض رئيس في دولة ذات سيادة». وكذلك يلمّحون إلى إمكان أن «تؤدي الضغوط إلى حرب إقليمية مدمرة»، في إشارة إلى وجود ما يزيد على ثلاثة ملايين «مهاجر أفريقي» من الدول التي ممكن أن تشارك في أي حملة عسكرية لإطاحة غباغبو، في مقدمتها بوركينا فاسو ونيجيريا.
وقد لاحظ المراقبون أن وسائل الإعلام التي يمسك بها غباغبو (إذاعة وتلفزيون) تبث منذ أيام «ريبورتاجات عن المهاجرين الأفارقة» مع شعارات شوفينية مثل «كما فعلوا في السابق فإنهم يبيعون إخوتهم الأفارقة للأوروبيين خدمة لساركوزي».

وراء كل رئيس امرأة... أو اثنتان



معروف أن للنساء دوراً مهماً في الحياة الاجتماعية والاقتصادية الأفريقية، ودوراً في السياسة وإن كان من وراء الكواليس
الحسن واتارا ولوران غباغبو، المتنازعان على رئاسة ساحل العاج يحملان تناقضاً أفريقياً بحتاً: المسلم واتارا «ابن الشمال المسلم» له زوجة واحدة يهودية، والمسيحي لوران غباغبو «ابن الجنوب المسيحي» له زوجتان واحدة مسلمة وواحدة إنجيلية.
زوجة واتارا، دومينك نوفيان، مولودة في الجزائر وعملت في فرنسا في ميدان العقارات، وكانت متزوجة قبل أن تتعرف إليه حين كان نائباً لمدير مصرف أفريقيا الغربية في داكار. وساعدته على تبوّء منصب مدير في صندوق النقد الدولي لفرع أفريقيا قبل أن يعود مديراً عاماً للمصرف الأول في أفريقيا. عام ١٩٩٠ تزوجت واتارا «على يد نيكولا ساركوزي، رئيس بلدية نيويي سور سين آنذاك»، ومن هنا تعود العلاقة القديمة بين الرجلين. وعندما انتقل واتارا إلى الغابون، أسّست دومينيك شركة عقارات مع فروع فرنسية وأميركية، علماً بأنها «تدير أملاك الرئيس الغابوني بونغو» وأملاك عائلة الرئيس السابق هوفوييه بوانيي. واشترت حقوق «فرانشايز» لصالونات حلاقة «جاك ديسانج» وأسست «صندوق أطفال أفريقيا».
أما أولى نساء غباغبو الماركسي، فهي الإنجيلية سيمون إيهيفه (٥٦ عاماً). رفيقة دربه وتحمل عدة ألقاب مثل «السيدة الحديدية». وتمسك بمقاليد حزبه «جبهة الوطنيين العاجيين». وتلقب أيضاً بـ«سيدة الدماء» بسبب ما يقوله البعض عن دورها في الحرب الأهلية فكانت «ملهمة الوطنيين» خلال النزاع. أما الفقراء فيكتفون بمناداتها بـ«ماما» بسبب دعمها الجمعيات الخيرية وهو ما يفسّر قدرة الجبهة على حشد جموع غفيرة في التظاهرات.
وتعتمد قوة غباغبو أيضاً على سبل تواصل علمية تمسك بها زوجته المسلمة «الآتية من الشمال من قبيلة مالينكي القوية» ناديانا بامبا (٣٩ عاماً) التي لا يفارقها غطاء الرأس الملوّن ولا النظارة السوداء. فهي تمسك بعصب «الحرب الإعلامية»، إذ إنها جاءت من عالم الصحافة وقد التقت مع غباغبو في «شاحنة الشرطة عندما قبض عليهما إبان التظاهرات».
وتشرف بامبا على جريدتين وقناة تلفزيونية ووكالة إعلانات. وهي التي تحافظ على «صورة المرشح السابق ورئيس الجمهورية الحالي». واستخدمت علاقاتها القوية لتسخير شركة الإعلانات الفرنسية الكبرى «يورو أر أس سي جي» (التي يتعامل معها الرؤساء الفرنسيون عادة) للترويج السياسي لزوجها.
ولدى عدد من العاجيين ثقة بأن «الأسد غباغبو» الذي استطاع ترويض هاتين المرأتين القويتين، قد يستطيع أن يفاوض حول مخرج مشرّف لهذه الأزمة.

اللبنانيون على مسافة واحدة من المتنازعين!



يعدّ نجيب زهر، الذي يشغل منصب رئيس الجالية اللبنانية، من كبار المهاجرين اللبنانيين في ساحل العاج. أول ما يريد زهر توصيله إلى «الرأي العام اللبناني» هو أن «لبنانيي هذا البلد على مسافة واحدة من الفريقين المتنازعين»، في إشارة إلى لوران غباغبو والحسن واتارا. ويرى أن كل ما قيل عن وقوف الجالية مع رئيس ضد آخر «كذب ونفاق ولا أساس له من الصحة».
في المقابل، تحدث أحد المواطنين لـ«الأخبار» عبر الهاتف، مشترطاً عدم الكشف عن اسمه، قائلاً «علاقتنا مع الشعب العاجي جيدة»، قبل أن يضيف ولكن «بعض اللبنانيين يحبون المغامرة». وأشار إلى أن «هناك بعض رجال الأعمال يراهنون على غباغبو والبعض الآخر يراهن على واتارا». وأضاف «نأمل أن لا نكون كبش محرقة أياً كان من سيحكم».
إلا أن مصرفياً لبنانياً في العاصمة الاقتصادية أكد أن «قوة اللبنانية الاقتصادية تجعل من الجالية اللبنانية شريكاً أساسياً في الاقتصاد الوطني العاجي أياً من وصل إلى الحكم»، ويضيف أن «الإسرائيليين الذين سعوا ويسعون لإخراجنا لم ينجحوا»، إذ إن المصالح الفرنسية والأميركية مرتبطة بما يمسكه اللبنانيون من «مصالح على الأرض تشغل ما يزيد على ثلاثة ملايين عاجي».
من جهته، يسعى رئيس الجامعة الثقافية في العالم، أحمد ناصر، إلى تنبيه اللبنانيين في الوطن الأم إلى أن «كل مهاجر ليس مليونيراً»، وأن هناك نحو ٢٠ في المئة من المهاجرين الذين لا يستطيعون السفر ولا العودة إلى الوطن بسبب نقص الإمكانيات. ويضيف وحتى ولو عادوا فهم «غير قادرين على تأمين سكن في لبنان».
أما السفير اللبناني، علي عجمي، فيؤكد بعض هذا الشيء، ولكنه ينفي أن تكون شركة طيران الشرق الأوسط قد رفعت أسعار البطاقات. وتحدث عن «حصول اجتماع في السفارة بين المسؤولين لتدارس هذا الأمر»، بعدما تبيّن أن «بعض مكاتب السفر تحاول الاستفادة من هذا الوضع المؤلم» وقد تم التواصل معها من أجل وقف هذه الأعمال.
من جهةٍ ثانية، أكد عجمي أنه تواصل مع السفير الفرنسي في ساحل العاج للتنسيق بشأن «ترحيل اللبنانيين إذا تطلب الأمر ذلك».
وعن مسيرة الاهتمام بأحوال الجالية، اعترف عجمي بعد تردّد «بوجود نقص في عديد العاملين في السفارة»، كاشفاً عن أنه «الموظف الدبلوماسي الوحيد الذي يعمل في السفارة» بمساعدة «ستة موظفين وطنيين».
وإذا كانت الأحوال هادئة الآن، ويستطيع السفير الاهتمام بأحوال الجالية، فإن التساؤلات تطرح عما يمكن أن يحصل إذا ما انفجرت الأزمة.