في نهاية 2022 بلغ عجز ميزان المدفوعات 3197 مليون دولار، أي بزيادة 63% مقارنة مع العجز المسجّل في عام 2021 والبالغ 1960 مليون دولار. وبذلك بلغت قيمة العجز المتراكم في ميزان المدفوعات منذ نهاية 2019 لغاية نهاية 2022، ما قيمته 21558 مليون دولار. وهذا الرقم يوازي 61% من العجز الذي تراكم في السنوات التي سبقت انفجار الأزمة، ابتداءً من نهاية 2010 ولغاية نهاية 2018، والبالغ 13164 مليون دولار. وميزان المدفوعات يُقدّر صافي خروج ودخول العملات الصعبة مهما كان شكلها ومصدرها، والعجز فيه يعني خروج عملات أجنبية أكثر من التي دخلت. ومن أبرز مكوّناته، الميزان التجاري الذي سجّل في نهاية 2022 عجزاً بلغ 15.5 مليار دولار، وتحويلات المغتربين التي يقدّر الصافي منها بما يفوق 3 مليارات دولار.
المصدر: مصرف لبنان | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

في السنوت الأربع الأخيرة، جرى تمويل عجز ميزان المدفوعات من موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، أي من الذخيرة الأخيرة التي يملكها لبنان في مواجهة مخاطر الجوع والمرض التي يفترض تقنين استخدامها لاستعمالها لاحقاً في إطار خطة النهوض الاقتصادي. لكن بعكس ذلك، فإنه في هذه السنوات، حُصر استخدام هذه الأموال بتمويل نفقات ذات طابع استهلاكي، علماً أن أثرها لا يظهر بوضوح في المجتمع اللبناني، إذ إن المعاناة بلغت حدوداً خطيرة، من نقص في الأدوية والتجهيزات الطبية، وحليب الأطفال، وفي السلع الغذائية...
عملياً، تسجيل ميزان المدفوعات عجزاً كبيراً كهذا في نهاية 2022، يعني العودة إلى المسار التصاعدي بعد سنة واحدة على المسار الانحداري. ففي نهاية عام 2020 كان عجز ميزان المدفوعات قد بلغ ذروته مسجّلاً نحو 10550 مليون دولار، ثم انخفض في السنة التالية إلى 1960 مليون دولار. في هذه الفترة ساد الاعتقاد بأن التصحيح يحصل، وأن مفاعيل الأزمة تنحسر. وتعزّز هذا الاعتقاد بما فعله مصرف لبنان لجهة التوقّف عن دعم استيراد السلع الأساسية مثل المحروقات والأدوية، ثم استبدلها بدعم للقدرة الشرائية من خلال السياسات النقدية بواسطة منصّة «صيرفة»، ولا سيما لموظفي القطاع العام. لكن ما حصل هو أن هذه السياسة انعكست مباشرة في زيادة عجز ميزان المدفوعات لأنها زادت، اصطناعياً، القدرة الشرائية للمقيمين في لبنان، ما شكّل ضغطاً في اتجاه زيادة استيراد السلع.
ولا يتوقع أن ينخفض عجز ميزان المدفوعات في السنوات المقبلة، طالما أن إدارة الأزمة متروكة بالكامل للسياسة النقدية التي تفضّل دائماً دعم الاستهلاك حتى لو من الذخيرة الأخيرة المتوافرة لديها، إذ لا يمكن الاستمرار في استعمال هذه الذخيرة لوقت طويل، ولا سيما أن مصرف لبنان لم يعد يملك، كما هو معلن، أكثر من 9.5 مليارات دولار، من ضمنها مبالغ تعود للخزينة العامة وهي عبارة عن حقوق السحب الخاصة التي حصل عليها لبنان من صندوق النقد الدولي، فضلاً عن مبالغ ضئيلة تُجمع من الضرائب والرسوم على المطار والمرفأ وخدمات الاتصال «رومينغ»... كذلك يتوقع أن يستمر العجز في ميزان المدفوعات، حتى لو أن مفاعيل التصحيح جارية على المجتمع، إنما هذا التصحيح يتعلق بجوانب من الأزمة ليست مرتبطة بتوزيع الخسائر وإعادة إطلاق القطاع المصرفي. هذا التصحيح يحصل في اتجاه انتقال الدولرة إلى «اقتصاد الكاش»، أي أن المجتمع يدفع الآن ثمن هذا الانتقال، ولم يدفع بعد كلفة انتهاء الأزمة. فحتى الآن ما زالت الخسائر كبيرة في القطاع المصرفي، ولو أنه جرى حسم كل موجودات المصارف من كل التزاماتها لما بقي لها شيء، وغالبيتها، إن لم يكن كلّها، ستكون غارقة في الإفلاس. وبما أن المصارف لديها من القوّة ما يكفي لوقف عملية التصفية هذه، فإن ما يجري حالياً هو إجبار المجتمع على التكيّف مع عملية تصحيح بعيدة المدى وقاسية ووحشية، يزداد بنتيجتها تركّز الثروة التي انتقلت بأكثر من طريقة بين الطبقات، فهناك كثير من المودعين، ولا سيما ذوي الحسابات الصغيرة والمتوسطة، الذين خسروا نسبة كبيرة من ودائعهم لمصلحة المقترضين. والأكثر استفادة هم الذين اقترضوا مبالغ أكبر. كما أن التجّار تمكنوا بفعل نفوذهم وقوّتهم الاحتكارية من إنقاذ رساميلهم من الذوبان بفعل انهيار سعر الصرف، ثم تلا ذلك قيامهم بإنقاذ أرباحهم وأكلافهم التشغيلية وتحويلها إلى الدولار السوقي مباشرة وتحميلها للمستهلكين. والعاملون بأجر في القطاع الخاص لم ينتزعوا تصحيحاً واسعاً لأجورهم، فيما العاملون في القطاع الرسمي حصلوا على تصحيح أقلّ وزناً. أما العاملون لحسابهم فقد استطاعوا الفوز بحصّة نسبية من التصحيح... إنما بشكل عام التصحيح الذي يمكن أن يظهر في ميزان المدفوعات في السنوات التالية، ليس سوى صورة كاذبة يختلط فيها الأقوى والأكثر ثراء والأقل عدداً، بالأضعف والأكثر فقراً وحرماناً والأكبر عدداً. وتصبح هذه الصورة أكثر مأساوية عندما يتبيّن أن العجز في ميزان المدفوعات هو المرجع الأساسي في انهيار سعر الصرف. كلما زاد العجز، كان سعر الليرة أكثر انحداراً واهتزازاً مقابل الدولار.