يجري مصرف لبنان، استطلاعاً فصلياً للأوضاع الاقتصادية في قطاعات الصناعة، التجارة والبناء، والأشغال العامة. يتضمن الاستطلاع جمع آراء وتوقعات أصحاب المؤسسات حول سير الأعمال في الفترة المقصودة مقارنة مع الفترة نفسها من السنة الماضية. وهذا الاستطلاع يتيح رصد تطوّر العديد من المؤشرات الاقتصادية، كالإنتاج، الطلب، حجم الاستثمارات، المخزون، الطلبات غير المسجلة وسواها.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

وبحسب النشرة الفصلية الصادرة أخيراً عن مصرف لبنان، والمتعلّقة بتطوّر هذه المؤشّرات بحسب آراء أصحاب المؤسسات في القطاعات المعنية، فإن مساراً إيجابياً - تصحيحياً، طغى على النشاط الاقتصادي اعتباراً من النصف الثاني من عام 2021. فللوهلة الأولى، تبدو رسومات المنحنيات الخاصة بتطوّر هذه المؤشرات على شكل أقرب إلى (U)، بمثابة إعلان نهاية الأزمة. إنما، باعتبار هذه الرسومات تعكس نتائج استطلاع للرأي لعيّنة مختارة، وباعتبارها ترصد مؤشرات محدّدة، فإنه لا يمكن قراءتها بعيداً من الظروف العامة التي أحاطت أو حفّزت تطوّر هذه المؤشرات بالوتيرة الظاهرة، وبعيداً من كونها قراءة من زاوية واحدة تتعلق بالعرض لا بالطلب. فما يبدو أنه تصحيح، أو انتعاش، أو تعافٍ، هو في الحقيقة ظاهرة مخادعة وكاذبة. فزيادة مبيعات القطاع التجاري لا تعكس واقع الأزمة بشكل أساسي ولا تدلّ أبداً على ما يحصل في القطاع بعد إغلاق مئات المحلات الصغيرة والمتوسطة في قطاعات مختلفة. والزيادة في العرض والطلب على المنتجات الصناعية لا تعكس بالضرورة الانتعاش الاقتصادي، وزيادة المخزون لدى القطاع التجاري، ومخزون المواد الأولية للقطاع الصناعي، تدلّان بوضوح على أن التحضيرات الجارية في السوق تحسباً لتعديل سعر صرف الدولار على المرافئ الحدودية، أي ما يسمّى الدولار الجمركي، وسائر الضرائب والرسوم، كان هائلاً.
في الواقع أن هذه المؤشرات تعكس فقط ما يحصل على ضفّة العرض أي ضفّة المؤسسات في مختلف القطاعات؛ فعلى ضفّة الطلب، أي من زاوية المستهلك، تغيّرت الظروف بشكل كبير. فمنذ نهاية النصف الثاني من عام 2021، ولغاية اليوم، ينفّذ مصرف لبنان سياسة دعم مقنّعة بواسطة التعميم 161 الذي يعمل من خلال منصّة «صيرفة». وبهذا الإجراء، هو يمنح أصحاب الحسابات المصرفية مبالغ مجانية وسهلة بالعملة الأجنبية، بوتيرة تزداد وتتقلّص تبعاً لظروف سياسية. هذا الدعم، حفّز الطلب الاستهلاكي لكنه ليس إلا شكلاً من أشكال التصحيح المضلّل لحقيقة الأزمة المستمرّة التي تظهر في تقلص موجودات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية واستمرار المسار نفسه في إدارة عملية توزيع الخسائر لتذويبها عبر التضخّم وتحميلها لكل المجتمع عبر آليات الحرمان التي تمتد مفاعيلها إلى المستقبل لسنوات.