لم تأت الزيادات الضريبية التي طرأت في السنوات الماضية، ومن ضمنها سنوات الأزمة الثلاث، في إطار سياسة عامة هادفة وعادلة، وإنما جاءت كردّ فعل في إطار هدف تعزيز الإيرادات حصراً من المصادر المعتادة، كأن الازمة لم تحصل. الزيادات الضريبية ما زالت تصيب المداخيل الأدنى بشكل حادّ، في مقابل منح رأس المال أولوية من خلال الاعتماد أكثر على الضرائب والرسوم على الاستهلاك.عندما طُرحت موازنة 2017، لم يكن وقتها شائعاً أن حجم الأزمة المقبلة ووتيرتها مرتبطان بخسائر مقنّعة في بنية النظام المالي. يومها، كان التركيز على كلفة سلسلة الرتب والرواتب وانعكاسها على الموازنة العامة والعجز المالي. في الواقع، ما زال الكثيرون يرون، لغاية اليوم، أن كلفة السلسلة هي التي سبّبت الأزمة، رغم أنها لم تصل إلى مليارَي دولار، في مقابل خسائر مقنّعة في النظام المالي بقيمة تفوق 70 مليار دولار. وما كان مطروحاً في ذلك الوقت، ما زال يمثّل الجزء الأهم من الطروحات الآنية؛ كان التقشّف عبر خفض الإنفاق العام وتقليص حجم القطاع العام باعتباره حمولة زائدة على بنية النظام، هو خيار قوى السلطة. ورغم أن حقيقة المشكلة انكشفت بعد الأزمة، وبات واضحاً أنها متّصلة، مباشرة، ببنية النموذج الاقتصادي وبأولوياته التي تقدّس الرساميل، فإن المقترحات بشأن النظام الضريبي ما زالت قاصرة عن محاكاة أصل المشكلة.

المصدر: البنك الدولي ووزارة المالية | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هذا الأمر كان واضحاً في موازنة 2022، إذ انبرت وزارة المال والحكومة ومجلس النواب إلى الإنغماس في فكرة تصحيح بنية الإيرادات من الدولار الجمركي والضرائب والرسوم على الاستهلاك من دون أي تعديلات جذرية. ينبع ذلك من اقتصار أهداف قوى السلطة على إعادة إحياء النموذج كما كان. كما أن هذا الأمر يفسّر سبب التركيز الأكبر على أوضاع المصارف وعلى المودعين، ولا سيما كبار المودعين. فقد خُصّصت للرساميل مساحات كبيرة في قوانين إعادة هيكلة القطاع المصرفي وإعادة التوازن للنظام المالي. عناوين هذه القوانين تدلّ على هذا التوجّه بشكل واضح. إنما في المقابل، مُسحت كل الأفكار المتصلة بقترحات على شاكلة قوانين تصيب الثروات المالية والعقارية وسائر الريوع وعلى المداخيل الأكبر. وكان هناك اتجاه واضح بأن قوى السلطة تعمل على خطّين:
- خطّ استمرار التقشّف الناشئ بفعل مفاعيل الأزمة التي أصابت الأجور بشكل رئيسي، وخصوصاً أجور العاملين في القطاع العام ومعاشات التقاعد والدعم والخدمات الأساسية، وأصابت أيضاً هيكلية الوظائف في القطاع العام عبر تهجير العاملين بوتيرة غير مسبوقة نحو القطاع الخاص ونحو بلدان أخرى أيضاً. نسبة الوظائف الشاغرة في القطاع العام تصل إلى 72% بحسب مسح أخير نفّذه مجلس الخدمة المدنية. وهذه الهجرة لا تقتصر على القطاع العام، بل هي تصيب القطاع الخاص، وخصوصاً حيث هناك كفاءات وخبرات تطلّب إيجادها سنوات طويلة. وغيابها سيكون له أثر واسع على الأجيال المقبلة، مثل القطاع التعليمي والقطاع الطبي.
- خطّ استعادة الإيرادات الضريبية التي كانت قائمة قبل الأزمة. أي الضرائب على الاستهلاك. وهذا الأمر تفسّره حقيقة التركيز على الدولار الجمركي ومضاعفة الإيرادات المتأتية منه بنحو عشرة أضعاف على الأقل، والتركيز أيضاً على الإيرادات الضريبية من رسوم وضرائب تصيب الاستهلاك بشكل أساسي.
الهدف من هذين الخطّين، كان ولا يزال، إجبار الأسر والمؤسّسات على خفض استهلاكها من أجل تقليص الاستيراد، وبالتالي الحدّ من نزف العملات الأجنبية من احتياطات مصرف لبنان. كما أن الهدف الثاني هو تخفيف الأعباء عن مصرف لبنان لجهة خلق النقد، ولا سيما أنه يقوم بذلك من أجل إطفاء الخسائر في النظام المالي. فهو اضطر إلى أن يضخّ كتلة من النقد بالليرة تساوي أقلّه 12 ضعفاً ما كانت عليه قبل الأزمة.
من هنا، كانت الإجراءات المتخذة على صعيد القوّة الشرائية للأجور عبارة عن استجابة متأخرة جداً، وغير سوية «ترقيع» لأنها لم تدخل ضمن أصل الراتب، وبخسة لا تعيد تشكيل أكثر من ثلث قيمة الأجور كما كانت عليه في عام 2008. الحدّ الأدنى للأجور الذي بلغ اليوم 2.6 مليون ليرة، يساوي فعلاً بقوّته الشرائية نحو 200 ألف ليرة مقارنة مع ما كان عليه في عام 2008. أصلاً، الأجور كانت تخسر من قوّتها الشرائية باستمرار منذ 1996 لغاية اليوم.
والجمود الضريبي القائم هو فعل مقصود وواضح يعبّر عن انعدام الرغبة في التعامل مع الأزمة، إلا من باب القطاع المالي وبشكل استنسابي، أي من دون اهتمام للآثار الاجتماعية التي تكبّدها المجتمع وسيتكبّدها في السنوات المقبلة بفعل السياسة المتبعة. هو انعكاس للخيارات السياسية التي تتخذها قوى السلطة بامتناعها عن القيام بإصلاحات جديّة في بنية الاقتصاد. كما لو أنها تهيئ المجتمع لأزمة جديدة ستتفجّر عاجلاً أو آجلاً.