لم تكن السلسلة سبباً في الانهيار كما يروّج محمد شقير وأبو رخوصة ومن يدور في فلكهم. هم لا يريدون من هذا النقاش سوى تصحيح أرباحهم التجارية على حساب تصحيح الأجور
في مناسبة الحديث عن تصحيح أجور القطاع العام بعدما تضخّمت الأسعار أكثر من 1000% خلال السنوات الثلاث والنصف الأخيرة، استعاد أصحاب الرساميل وأتباعهم من وزراء ونواب، ومن شخصيات تدّعي الخبرة والتخصّص في الاقتصاد، وحتى من بعض المديرين العامين في القطاع العام، ومن إعلاميين أيضاً... كلاماً يبرّر امتناع الحكومة عن دراسة تصحيح أجور العاملين في القطاع العام بشكل جديّ، بالاستناد إلى سردية مفادها: السلسلة أدّت إلى الانهيار. يقصدون أن سلسلة الرتب والرواتب التي أقرّت في النصف الثاني من عام 2017، كانت سبباً أساسياً في الانهيار الذي بدأت مؤشراته تظهر بوضوح اعتباراً من منتصف عام 2019.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

يردّد هؤلاء كلاماً لا منطق له عن مفاعيل واسعة للسلسلة على الاقتصاد، وأن الضغوط التي مورست من قبل مجموعات الموظفين، دفعت قوى السلطة إلى منح الموظفين تصحيحات هائلة على أجورهم فرضت على الخزينة أكلافاً لا يمكنها تحمّلها، وفرضت على المجتمع ضرائب كبيرة أيضاً لم يكن بمقدوره تحمّلها أيضاً. ومن جهة أخرى، كان للسلسلة أثراً تضخمياً ناتجاً من السيولة الإضافية التي اضطرت الحكومة أن تضخّها في أيدي أصحاب الرواتب التي زيدت... هذه السردية ما زالت سائدة ومنتشرة على ألسنة مجموعة يتزعّمها رئيس غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان محمد شقير، وإلى جانبه رئيس جمعية تجار بيروت المصرفي نقولا شماس المشهور بـ«أبو رخوصة» وكل من يدور في فلكهم.
دحض هذه السردية سهل جداً انطلاقاً من وقائع الانهيار نفسه. فبحسب أرقام وزارة المال لا تظهر كلفة الأجور وملحقاتها ارتفاعاً كبيراً بعد السلسلة. إذ كان مجموعها يبلغ 7335 مليار ليرة، ثم ارتفع في نهاية عام 2019 أي بعد ثلاث سنوات، إلى 10146 مليار ليرة وهو اليوم على مسار انحداري إذ بلغ في نهاية أيلول 2021 نحو 8200 مليار ليرة (فضلاً عن انهيار قيمة الليرة). الفرق الأقصى الذي يمكن اعتباره كلفة إضافية لإقرار السلسلة هو 2811 مليار ليرة. إلا أنه في المقابل، سجّل مصرف لبنان خسائر في عام 2016 بقيمة 27390 مليار ليرة، وارتفعت إلى 110 آلاف مليار ليرة في نهاية 2021، أي بزيادة قيمتها 82610 مليار ليرة، وهي خسائر لم تكن منظورة أو مكتشفة في السنوات السابقة، ولديها لغاية اليوم وتيرة حركة مستمرة بالتصاعد، أي أنها لم تتوقف بعد رغم كل ما حصل.
الفرق بين الخسارتين كبير جداً ولا يمكن بأي شكل من الأشكال ربط الأمرين ببعضهما وفق سردية السببية التي يردّها ميقاتي وشقير وسائر بوطة أصحاب الرساميل. وحتى من وجهة نظر السياسة المالية، فإن السلسلة أقرّت بالتزامن مع مجموعة ضرائب أبرزها زيادة ضريبة القيمة المضافة إلى 11%، وزيادة ضريبة الفوائد من 5% إلى 7% وإقرار ضريبة على الربح العقاري، فضلاً عن زيادات على رسوم كتاب العدل والسجل العدلي والسفر (خروج ودخول ومقاعد الطيران) وعلى المشروبات الروحية والتبغ... لذا، لم يسجّل تضخّم الأسعار ارتفاعاً تراكمية كبيرة. ففي تشرين الأول 2017 كان مؤشر الأسعار يبلغ 102.46، ثم بلغ 108.86 في تشرين الأول 2018 وسجّل 110.34 في تشرين الأول 2019. أي أن التضخّم في هذه الفترة لم يتراكم فوق 7.7%.
ومن وجهة نظر السياسة النقدية، فإن الكتلة النقدية المتاحة للتداول (M1) لم تزد في الفترة ما بين نهاية 2016 ونهاية 2019 بأكثر من 685 مليار ليرة، إنما أصبحت تزداد بوتيرة متسارعة اعتباراً من النصف الثاني من عام 2019 مع بدء مصرف لبنان بضخّ السيولة النقدية مسبباً تضخماً هائلاً بلغ لغاية حزيران 2022 نحو 1090%.
إذاً، لم كل هذا التخويف من السلسلة؟ ببساطة لأن الانهيار فرض جدول أعمال مختلف على كل الأطراف في المجتمع لتصبح أولوياتهم متمحورة حول الحفاظ على حصّتهم من الناتج الذي تقلّص بشكل حاد من 55 مليار إلى 18 مليار دولار. جماعة شقير و«أبو رخوصة» يعتبرون أنفسهم أصحاب نفوذ، وأولويتهم تصحيح أرباحهم التجارية والريعية بدلاً من تصحيح الأجور بشكل عام. لذا، فإن اهتمامهم بالمالية العامة هو من باب منع الضريبة عن أرباحهم فقط. صحيح أن الناتج تقلّص لكن هذا لا يعني الحفاظ على حصّة الأجور منه، بل يريده هؤلاء أن يكون على حسابها. وبهذه الخلفية، هم وافقوا على تصحيحات بسيطة على أجور القطاع الخاص، ويوافقون على مبدأ تجزئة الأجور في القطاع العام (بدل الحضور، فوق الراتب الأساسي، فوق المساعدة الاجتماعية، فوق بدل النقل) بدلاً من تصحيحها بشكل يواجه مشكلة الحرمان من التعليم والطبابة.