بعد أكثر من سنتين ونصف سنة على الانهيار، تتجنّب قوى السلطة تحديد نسب غلاء المعيشة حفاظاً على مصالح أصحاب العمل. وخلال هذه الفترة لم يتحرّك أحد لمنح العمال أيّ تصحيح على أجورهم، بل كان المطلوب العكس تماماً، أي حرمانهم من القوّة الشرائية لتدمير قدراتهم الاستهلاكية.هذا السلوك لم يحصل في عزّ الحرب الأهلية. ففي الفترة الممتدة بين عام 1980 وبين عام 1992 لم يتوقف تصحيح الأجور بالتوازي مع ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الحرّة. كان هناك تصحيح سنوي، وفي بعض المرات نُفّذ تصحيحان في سنة واحدة. فعلى مدى ثلاث سنوات متتالية من عام 1986 ولغاية 1988، شهدنا تصحيحين للحدّ الأدنى للأجور. في عام 1985 كان يبلغ 1475 ليرة، ورُفع إلى 2200 ليرة في مطلع 1986 وإلى 3200 ليرة في منتصفها. وفي عام 1987 رُفع الحدّ الأدنى إلى 4300 ليرة ثم إلى 8500 ليرة. وفي عام 1988 رُفع إلى 15000 ليرة ثم إلى 25000 ليرة. وفي المحصّلة ارتفع الحدّ الأدنى للأجور من 675 ليرة في عام 1980 إلى 45000 ليرة في عام 1990. ومن ذلك التاريخ، بدأت عملية التصحيح تأخذ وقتاً أطول في ظل إمساك السلطة من قبل أمراء الطوائف بشراكتهم مع قوى المال. وصل الأمر إلى توقف لفترة طويلة امتدّت لنحو 12 سنة من عام 1996 ولغاية 2008، تزامناً مع احتواء قوى السلطة للاتحاد العمالي العام وصولاً إلى تحويله إلى أداة سياسية بيدها.
المصدر: مصرف لبنان (المتوسط الشهري لسعر الصرف) الأخبار | تصميم: رامي عليان | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

هذا الأمر لم يكن تفصيلاً في حسابات هذه القوى. فمن يومها أصبحت النقابات عبارة عن قناة تحقق السلطة من خلالها أهدافها في إدارة عملية إعادة توزيع الثروة لمصلحة طرف واحد. العمال لم يكونوا جزءاً من الطرف المستفيد، وهم تكبّدوا الخسارة الكبرى في أيام البحبوحة، إذا جاز التعبير، كما يحصل اليوم في أيام الأزمة.
الانكسار الوحيد الذي واجهته قوى السلطة، هو ذاك الذي فرضه شربل نحاس يوم تولّى وزارة العمل. يومها فرضت قوى السلطة عنادها واستخدمت الاتحاد العمالي العام لتروّج بأن التصحيح الذي ستمنحه للعمال هو الأفضل. استقال نحاس، ليس لأنه، في اعتباراتهم خسر تلك الجولة، بل لأن القوى التي افترض أنها كانت ترعى مشروعه لإعادة التوازن إلى النموذج الاقتصادي، لم تسحب ميزان القوى في اتجاهها واتجاهه أيضاً. هكذا خسر مشروع التغطية الصحية الشاملة لمصلحة إبقاء الدكاكين الضامنة المتعدّدة الرؤوس الطائفية، وهي التي أدارت محفظة فيها أكثر من 12 مليار دولار من مدّخرات العمال، سواء أكانوا عاملين بأجر منتسبين إلى الضمان الاجتماعي أم أولئك المنتسبين إلى ما يسمّى النقابات الإلزامية مثل المهندسين والأطباء والمحامين وسواهم وصولاً إلى نقابات المعلمين… أسوأ ما حصل أن الرؤوس الطائفية لدكاكين الجهات الضامنة باتت شبه مفلسة اليوم لأنها لم تستمع إلى التحذيرات التي قدّمها لها نحاس عن ضرورة حماية هذه المدّخرات. اليوم خسروا كل ما كانوا يعدّونه امتيازاً لهم. خسارة هؤلاء تأتي ثانياً بعد خسائر الذين لا جهات ضامنة تحميهم والذين يمثّلون نصف اللبنانيين. فمداخيل هذه الفئة الأكثر تهميشاً تقلّصت بنسبة 500% بسبب تضخّم الأسعار وبالتالي انزلقت مباشرة من خطّ الفقر الأعلى إلى خطّ الفقر المدقع المتعدّد الأبعاد، أي الفقر المدقع الذي لا يحصر فيه النقص بالغذاء، بل بأكثر من بُعد من ضمنها الغذاء والصحة والتعليم وسواها.
ولم يصل الأمر إلى هذه المرحلة إلا لأن قوى السلطة تركت الأزمة بلا أي علاج لفترة تزيد عن سنتين ونصف سنة. بقيادة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أُتيح لهذه القوى اختبار قدرتها على فرض تصحيح قسري لعجز الميزان الجاري عبر فرض ضريبة التضخّم. بهذا المعنى أصبح العامل ممنوعاً من الوصول إلى نسبة كبيرة من الحاجات الأساسية. وتعزّز هذا الأمر برفع الدعم، أخيراً، عن السلع الأساسية كالمحروقات والأدوية والمستلزمات الطبية…
أدركت قوى السلطة أنه لا يمكن الاستمرار بهذا المنحى من دون زيادة الأجور، لذا اقترحت الحكومة، بعد التوافق بين الاتحاد العمالي العام وهيئات أصحاب العمل، أي بأدواتها، منح العمال بعضاً من الأوكسيجين الإضافي عبر زيادة مقطوعة على الدخل لا تُحتسب في تعويضات نهاية خدمتهم ولا توفّر لهم الحصول على الصحة اللائقة والتعليم وباقي الخدمات الأساسية. بهذا المعنى، تريد السلطة منهم مواصلة خدمة استمراريتها. وهنا أيضاً لا تدرك هذه القوى، وعلى رأسها أصحاب العمل، أن استمراريتهم مرتبطة باستهلاك العمال. فكلما ضاق أفق الاستهلاك عند العمال، أُغلق المزيد من المؤسسات. إعادة القوة الشرائية للأجور ليست ترفاً يمكن الرهان على تأجيله، بل هي ضرورة حتمية للجميع سواء تمّ الأمر من خلال زيادة الأجور النقدية أو من خلال خفض الأكلاف على الأسر.