استحصل الرئيس الأميركي جو بايدن، على قرار من مجلس الشيوخ يجيز للحكومة الفيدرالية إنفاق 1.2 تريليون دولار على استثمارات جديدة في الولايات المتحدة الأميركية من ضمنها 550 مليار دولار على البنى التحتية في مجالات الطاقة والاتصالات والمواصلات والمياه وسواها. خطّة بايدن تأتي بعد إنفاق الخزينة الأميركية 4 تريليونات دولار لتحفيز الطلب في مواجهة تداعيات كورونا. استعملت آلية خلق النقد لتمويل هذه العملية التي استمرت أكثر من سنتين وبدأت تظهر نتائجها اليوم بتضخم مرتفع. الخطّة سيكون لها مفعول مختلف وإن لم تتضح مصادر تمويلها بعد

نالت خطة الإنفاق الاستثماري في الولايات المتحدة الأميركية، والتي تبنّاها الرئيس جو بايدن، موافقة مجلس الشيوخ الأميركي في شهر تشرين الثاني الماضي. هي خطّة تمتّد على خمس سنوات وتنصّ بنسختها النهائية على إنفاق 1.2 تريليون دولار على استثمارات جديدة منها 550 ملياراً مخصّصة للبنى التحتية في قطاعات المواصلات والطاقة والمياه والاتصالات، ومبادرات للتحوّل إلى الطاقة النظيفة. ويعادل هذا الإنفاق الاستثماري 2.62% من الناتج المحلي الأميركي، وهو يوازي ثلث الأموال التي أنفقتها أميركا لتحفيز الطلب خلال جائحة «كورونا». رغم ذلك، فإن الخطّة هي بمثابة إجراءات أكثر فعّالية لإنفاق الأموال بشكل موجّه من الحكومة نحو قطاعات معينة يُعتقَد أنها ستخلق عدداً كبيراً من الوظائف على عكس أموال الحِزَم التي لم تستطع الحكومة توجيهها في خدمة زيادة الطلب السوقي، بل انتهى الأمر بادّخارها واستثمارها في الأسواق المالية.

312

مليار دولار هو حجم الاستثمار في البنى التحتية لقطاع النقل كما هو مخصص له في تشريع البنى التحتية الذي مرّ في الكونغرس الشهر الماضي.


لكنّ لهذه الخطّة عيوباً أبرزها يكمن في مصدر تمويلها. ففي المشروع الأساسي الذي تبنّاه بايدن وضمّنه في حملته الانتخابية، كانت الزيادات الضريبية هي مصدر تمويل الخطّة، إلا أن هذا الأمر لاقى اعتراضاً من الأعضاء الجمهوريين في مجلسَي الكونغرس والشيوخ، وحتى جزء من النواب الديمقراطيين. لكنّ تسوية ما جرت بين الاثنين لإقرار هذه الخطة من دون تحديد مصدر التمويل وسط توقعات بأن التمويل آتٍ عبر المزيد من الاستدانة.

السياق الاقتصادي
من شأن هذه الخطّة أن تعيد الاعتبار إلى الإنفاق الاستثماري في قطاعات حيوية كانت منسيّة في الولايات المتحدة الأميركي. فالإنفاق الحكومي الأميركي على هذا القطاع كان في مستوى متدنّ قياساً إلى الدول المتقدمة، لا بل كان يعاني منذ سنوات، من نقص حادٍّ في التمويل. وبحسب تقرير أعدّه بنك «BNP Paribas»، ففي الفترة الممتدة بين 2014 ونهاية 2018، كان معدّل استثمار الولايات المتحدة في قطاع البنى التحتية للمواصلات لا يتجاوز 0.55% من الناتج المحلي الإجمالي. هكذا انزلقت أميركا على لائحة الدول الأعظم لتصبح في المرتبة الـ15 بين دول مجلس التعاون الاقتصادي، أي أنها في مرتبة سيئة بينما هي أغنى دولة في العالم.
قرار بايدن باللجوء إلى الإنفاق الاستثماري لتحفيز النموّ، يأتي بعدما تبيّن له أن الاعتماد حصراً على آليات خلق النقد وإصداره وضخّه في الأسواق من دون التحكّم بالقنوات التي يسلكها، ليس مجدياً. ففي هذا المسار لم يتم تعويض تراجع الطلب وتحفيز الإنتاج كما كانت الإدارة الأميركية تفترض، بل سلكت هذه الأموال مساراً مباشراً نحو حسابات الادّخار والاستثمار في الأسواق المالية (ولا سيما الأسهم والسندات والعملات المشفّرة) التي انتفخت بفعل الطلب الهائل الذي شهدته خلال فترة قصيرة نسبياً.
لكن أهم ما في اللجوء إلى الإنفاق الاستثماري هو الاستثمار في البنى التحتية، علماً بأن المواصلات تُعد من أهم العوامل في الاقتصاد لأنها تدخل في سلاسل التوريد وهي مسؤولة عن ربط الأسواق بعضها ببعض. لذا، يسهم العمل على تطويرها وتحسينها، في زيادة الإنتاج. وبايدن يعوّل على أن تسهم هذه الاستثمارات في مكافحة البطالة، أي أن يزداد الطلب الفعلي والإنفاق في الأسواق بشكل مستدام على عكس ما حدث في الولايات المتحدة عند ضخّ حزمتَي الإنقاذ الماضيتين، إذ إنه بارتفاع الطلب على السلع، تتشجّع الشركات لزيادة استثمارها أكثر لاستغلال الارتفاع المرتجى في الطلب، وهو ما يخلق، نظرياً، دورة اقتصادية سليمة.

عاصفة التضخّم
ما زالت هناك مخاوف من التضخّم الذي ستنتجه حزمتا التحفيز السابقتان. هناك خشية من أن تتسبب الأموال التي تُضخّ في الأسواق، بالإفراط في الطلب، ما يؤدّي إلى ارتفاع الأسعار في حال لم يتم تحفيز الإنتاج بشكل كافٍ لخلق توازن بين العرض والطلب. وقد بدأت مظاهر التضخّم بالظهور فعلاً خلال الأشهر الأخيرة، ولا سيما في شهر تشرين الأول الماضي الذي سجّل معدّل تضخّم بنسبة 6.2%، وهو أكبر ارتفاع تضخمي شهري في السنوات الثلاثين الأخيرة. هذا الأمر حوّل المخاوف إلى قلق حقيقي.
ويتأزم الأمر أكثر عندما يصبح النقاش بشأن هذه الحزم ومفاعيلها التضخمية، مرتبطاً أيضاً بنقاش حول خطّة بايدن ومفاعيلها التضخمية. وبحسب الدراسة التي نشرها فيكتور كيلانكو، فقد خلق هذا النقاش قناعة بأن التضخّم آتٍ، وأن الجدال بشأن النتائج المحتملة لخطّة بايدن، يفاقم هذه التوقعات. بمعنى آخر، إن توقّعات التضخّم قد تكون بحدّ ذاتها سبباً للتضخّم. فإذا انتشرت هذه التوقعات بين الناس، تدفع الأفراد والشركات نحو تعزيز الأمان واستباق ارتفاع الأسعار، أي أنهم يشترون في الوقت الحاضر، حاجاتهم المستقبلية بسبب توقعاتهم بارتفاع أسعارها. هذه الدينامية تخلق زيادة مفرطة في الطلب على السلع ما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها. كما أنه في حال توقّع حصول التضخم، يتّجه الأفراد الى التفاوض على أجور أعلى بسبب توقعاتهم بغلاء المعيشة، وهذا الأمر يزيد أيضاً من أكلاف أحد مُدخلات الإنتاج (العمل)، ويرفع الأسعار في الأسواق ويسبّب زيادة نسب التضخّم.

مع ارتفاع الطلب على السلع تتشجّع الشركات لزيادة استثمارها أكثر لاستغلال الارتفاع المرتجى في الطلب ما يخلق دورة اقتصادية


وتوقعات التضخم تفرض على الناس سلوكاً معيناً تجاه استعمال المدّخرات. فبسبب الخوف من انخفاض قيمة العملة، سيعمد عدد كبير إلى تقليص مدّخراتهم في مقابل تخزين السلع والأصول التي يعتقدون أن قيمها لن تتدهور سريعاً، أو لن يأكلها التضخّم. وتوجّه الأفراد لخفض مدّخراتهم سيسبّب ارتفاعاً في أسعار الفائدة بفعل ارتفاع الطلب على النقد، وهذا الأمر أيضاً يؤدي إلى ارتفاع الأسعار.

زيادة الضرائب؟
أي مصدر لتمويل خطّة بايدن؟ مدعاة السؤال أن الخطّة التي تبنّاها بايدن في حملته الانتخابية كانت تفترض زيادة الضرائب لتوفير التمويل لمشاريع البنى التحتية. يومها، كانت تقديرات الخطة أن رفع معدلات الضرائب على أرباح الشركات الخاصة إلى 28%، وعلى الشركات المتعددة الجنسيات ذات الأصول الأميركية إلى 21% قد يكون كافياً للتمويل. إلا أن ما أقرّ في الكونغرس الأميركي، لا يلحظ أي إجراءات من هذا النوع أو لزيادة الضرائب عموماً.
ولا يمكن القول بأن التمويل سيكون عبر الخزينة من الإيرادات الحالية. فهذه الخزينة تسجّل عجزاً منذ فترة طويلة، بينما تمويل الخطّة سيؤدي إلى عجز بقيمة إجمالية 350 مليار دولار. لكن الخطّة التي أُقرّت في الكونغرس تشير إلى تمويل المشاريع من خلال توفير بعض النفقات، مثل وقف تمويل برنامج التعويض عن العاطلين عن العمل، وتغيير طريقة احتساب أسعار الأدوية في برنامجَي «مديكير» و«مديكايد» ما سيوفّر مبلغاً من الموازنة العامّة، وغيرها. فبحسب الخطّة المقرّة، يُقدّر أن توفّر الإجراءات المرافقة لها نحو 263 مليار دولار. لكن حسابات مكتب الميزانية في الكونغرس تشير إلى أن التوفير الناتج عن كل الإجراءات المطروحة لا يزيد عن 22 مليار دولار سنوياً. هذا الأمر يثير إشكالية لجهة تمويل المشاريع. فالعجوزات المتوقّعة من تطبيق الخطة، لا يمكن تغطيتها إلا من خلال مسارين: زيادة الإيرادات من خلال رفع الضرائب، أو الاستدانة. وبما أن الخطة المقرّة لا تشمل رفع الضرائب، فهذا يعني أنه من المتوقّع أن يتم تمويل المشروع من خلال الاستدانة.
والولايات المتحدة تعاني أصلاً من مشكلة الاستدانة، التي أوصلتها إلى أزمة سقف الدين في شهر أيلول الماضي، لذا فإن هذا الخيار قد يعيد الصراع بين الإدارة الأميركية والكونغرس حول سقف الدين.

اتفاق الكونغرس
تتضمن الخطة الأصلية مشاريع في مجالات عديدة، منها قطاعات النقل والماء والكهرباء والاتصالات والأبحاث التكنولوجية وغيرها. إلا أن بعضها فقط أُقرّ منها في الكونغرس الأميركي. الخطّة المقرّة تتضمن الآتي:
- الطرقات والجسور: خُصّص مبلغ 110 مليارات دولار لصيانتها، إذ إن 20%، أو 173 ألف ميل، من الطرقات الأميركية هي في حالة سيئة، وكذلك هو الأمر بالنسبة إلى نحو 45 ألف جسر، بحسب البيت الأبيض. كما يشمل هذا المبلغ إنشاء جسور وطرقات جديدة، بالإضافة إلى مشاريع لزيادة السلامة في قطاع النقل، بالنسبة إلى المشاة وراكبي العجلات على وجه الخصوص.
- النقل العام وسكك الحديد: خُصّص مبلغ 39 مليار دولار لتطوير قطاع النقل العام تشمل صيانة البنى التحتية الموجودة وتحسينها، والعمل على جعلها متوفرة في مناطق جديدة. بالإضافة إلى العمل على تحسين وتطوير سكك الحديد وأسطول الحافلات، والعمل على استبدال الآلاف من هذه الأخيرة بأخرى أقل ضرراً بالبيئة.
- مطارات ومرافئ: خُصّص مبلغ 17 مليار دولار لتطوير البنى التحتية في المرافئ، بالإضافة إلى 25 مليار دولار لتطوير المطارات.
- تطوير خدمة الإنترنت: خُصّص مبلغ 65 مليار دولار لتطوير البنى التحتية الخاصّة بشبكة الإنترنت بهدف تخفيف كلفة هذه الخدمة على الأسر والشركات. بالإضافة إلى تسهيل حصول الأسر المنخفضة الدخل على خدمة الإنترنت من خلال دعم حكومي مباشر.
- تطوير خدمات الكهرباء والمياه: خُصّص مبلغ 65 مليار دولار للاستثمار في إعادة بناء شبكات الكهرباء، من آلاف الأميال من خطوط نقل الكهرباء إلى توسيع العمل بالطاقة المتجددة. كما يُخصّص مبلغ 55 مليار دولار لتطوير البنى التحتية الخاصّة بالمياه، مثل أنابيب مياه الخدمة الأساسية والفرعية بهدف تحسين الخدمة ووصولها إلى جميع المناطق بنوعية متساوية. بالإضافة إلى استثمار 50 مليار دولار في الأمن السيبراني، بعد الخروقات العديدة التي تعرّضت لها شبكات المياه والطاقة في السنة الماضية والتي أدّت إلى أزمات متعددة.

*فيكتور كيلانكو- ورقة تحت عنوان «الآثار المحتملة لمشروع قانون البنى التحتية لبايدن على الاقتصاد الأميركي»، نُشرت في المجلة الدولية للتطوّر العلمي



ما حُذف من خطة بايدن
شهدت الخطة الأصلية للرئيس الأميركي جو بايدن، تغييرات كثيرة بعد الاتفاق بين الجمهوريين والديمقراطيين من أبرزها اقتطاع مبلغ بقيمة 300 مليار دولار كان مخصّصاً للإنفاق على البنى التحتية للنقل والمواصلات، ومبلغ 72 مليار دولار كان مخصّصاً للإنفاق على البنى التحتية للمياه والطاقة. فالخطة الأصلية كانت تفترض إنفاق 620 مليار دولار على البنى التحتية للنقل والمواصلات، إلا أن الكونغرس اختصرها إلى 312 مليار دولار. كما تضمنت الخطّة الأصلية إنفاق 338 مليار دولار على البنى التحتية للمياه والطاقة، بينما اختصرها الكونغرس إلى 266 ملياراً. كما تم التغاضي عن العديد من البنود الأخرى الموجودة في الخطة، مثل الإنفاق على مشاريع سكنية وعلى القطاع التعليمي والأبحاث في مجالات تكنولوجية، التي أصبحت أميركا متأخرة فيها نسبياً، مثل أشباه الموصلات (semiconductors)، بالإضافة إلى الأبحاث في مواجهة التغيّر المناخي وغيرها.