تُقدّر قيمة التهرّب الضريبي حول العالم بنحو 483 مليار دولار في السنة. «هذا المبلغ يكفي لتلقيح كل سكان الأرض بشكل كامل وبالجرعتين، ثلاث مرات». هذا ما يُظهره تقرير «حالة العدالة الضريبية» الصادر أخيراً. لكنّ خسائر التهريب لا تتعلق فقط بالتنمية التي يمكن تحقيقها بواسطة المبالغ غير المحصّلة، بل لديها تأثير مرتبط باللامساواة أيضاً. فالخسائر تتركّز في فئات الدول ذات الدخل المنخفض بشكل أكبر، مقابل دول ثرية - ذات الدخل الأعلى، هي المسؤولة عن النسبة الكُبرى من هذه الخسائر. على مستوى قياس آخر، فإن الشركات المتعدّدة الجنسيات تهرّبت من تسديد ما يُقدر بنحو 312 مليار دولار بواسطة قدراتها ونفوذها في استغلال القوانين والتحايل عليها ونقل الأرباح من بلد إلى آخر.

مصادر التهرّب
الشركات المتعدّدة الجنسيات مسؤولة عن خسائر في الضرائب المهرّبة بقيمة تقديرية تبلغ 312 مليار دولار، أي ما نسبته 65% من مجمل التهرّب الضريبي. آليات التهرّب، كما وردت في تقرير «حالة العدالة الضريبية» الذي أصدرته.... يشير إلى أن هذه الشركات تؤسّس فروعاً لها في الدول التي تفرض معدلات ضرائب منخفضة، أو في الدول التي لا تفرض ضرائب مطلقاً، وتنقل إلى هذه الفروع أرباحاً كبيرة من نشاطاتها في دول أخرى، ما يتيح لها التهرّب من تسديد ضرائب مرتفعة. وتُقدّر الأرباح التي تنقلها هذه الشركات إلى ما يُسمّى «الملاذات الضريبية» بما يُراوح بين 900 مليار و1100 مليار دولار، أي ما يساوي 40% من أرباحها.
لدى هذه الشركات حجم هائل يوازي ثلث الناتج المحلّي العالمي، كما أنها تمثّل نصف الصادرات وربع التوظيف في العالم. وبدلاً من أن تكون مصدراً هائلاً للضرائب المحصّلة في مختلف البلدان التي تنشط فيها، فإنها بسبب نفوذها وقدراتها أصبحت مصدراً هائلاً للتهرّب. لكنّ الخسائر ليست فقط بشكلها المباشر الناتج من التهرّب المرتبط بنقل الأرباح إلى فروع في بلدان أخرى، بل يشمل أيضاً خسائر غير مباشرة. فحجم الأموال التي تنقلها الشركات إلى فروعها في الدول المسماة «ملاذات ضريبية»، يُشعل المنافسة بين الدول على جذب الاستثمارات من خلال خفض الضرائب على أرباح الشركات. تنافس كهذا يفاقم الخسائر في الإيرادات الضريبية المحتملة لتصبح الخسائر «أكبر بكثير من الخسائر المباشرة» كما يرد في التقرير. فبحسب صندوق النقد الدولي، فإن قيمة الخسائر غير المباشرة تساوي ثلاثة أضعاف الخسائر المباشرة.
يشير التقرير إلى أن الدول المصنّفة في فئة الدخل المرتفع، تخسر 276 مليار دولار سنوياً بسبب تهرّب الشركات من دفع الضرائب، أي أن 88% من الخسائر الضريبية بسبب تهرّب الشركات هي من نصيب الدول الغنية، فيما تخسر الدول الأخرى 36 مليار دولار سنوياً فقط. هذه الأرقام تؤثّر على الدول الأفقر بشكل أكبر، إذ إن خسارة الـ36 ملياراً تشكّل ما نسبته 4.2% من الإيرادات الضريبية لهذه الدول، في حين أن خسائر الدول ذات الدخل المرتفع لا تشكّل أكثر من نسبة 2.8% من إيراداتها الضريبية.

سرّية مصرفية
من أدوات استقطاب الأموال وإحدى الطرق الأكثر جذباً للأموال والأرباح الهائلة، هي السرية المصرفية. فالعديد من أصحاب الثروات يحوّلون أموالهم إلى دول تتميّز بوجود قوانين تحمي السرية المصرفية من الانكشاف، أو ليس لديها تبادل المعلومات الضريبية مع بلادهم. السرية المصرفية تكبّد الدول خسائر كبيرة في الإيرادات تُقدّر بنحو 171 مليار دولار سنوياً. يمثّل هذا الرقم 35% من إجمالي الخسائر الضريبية في العالم، بحسب تقديرات التقرير. وتُعدّ دول منظمة التعاون الاقتصادي (OECD) مسؤولة عن 49% من المخاطر المتعلّقة بالسريّة المصرفية في العالم. لكن، واقعياً، هذه الدول مسؤولة عن 92% من الخسائر الضريبية الناتجة من التهرب الضريبي بواسطة السرية المصرفية، أي ما قيمته 157 مليار دولار. ومن أبرز هذه الدول المعنية بالتزام السرية المصرفية: بريطانيا وهولندا ولوكسمبورغ وسويسرا.
تشكّل السريّة المصرفية عائقاً أمام تطبيق أنظمة ضريبية تصاعدية تستهدف ثروات الطبقات الأغنى وتردم هوّة اللامساواة


تُعتبر بريطنيا أكبر وأسوأ المساهمين في إتاحة قناة السرية المصرفية لتهرّب أصحاب الثروات من الضرائب. هي تستخدم في ذلك شبكة الجزر التابعة لها مثل جزر الكايمان وجزر فيرجن حيث تتيح إقامة نوع من «إمارات» للملاذات الضريبية. هذه الشبكة من الجزر يُشار إليها عادة باسم شبكة العنكبوت البريطانية. وبحسب أرقام تقرير حالة العدالة الضريبية، فإن هذه الشبكة البريطانية مسؤولة عن مبلغ 88 مليار دولار من الخسائر الضريبية سنوياً.
بشكل عام، تشكّل السريّة المصرفية عائقاً أمام تطبيق أنظمة ضريبية تصاعدية تستهدف ثروات الطبقات الأغنى، وتهدف الى إعادة توزيعها لردم الهوّة الناتجة عن اللامساواة. وكما يشير التقرير المذكور، فإن الإحساس بأن الضرائب والقوانين لا تطبّق على جميع فئات المجتمع بشكل عادل، يخلق نوعاً من الخلل في الثقة لدى المجتمع.

حلول مقترحة
يقترح تقرير حالة العدالة الضريبية عدّة حلول للحد من الخسائر الضريبية، أهمها:
1- إضافة ضرائب على الأرباح الإضافية للشركات المتعددة الجنسيات، هذه الأرباح هي تلك التي تتحصّل عليها هذه الشركات بفعل أزمة كورونا. فمثلاً، شركات الأدوية التي صنّعت لقاحات للفيروس، استغلّت الأزمة لمراكمة أرباح إضافية هائلة.
2- إضافة ضرائب على أصحاب الثروات الكبرى في العالم، بهدف تمويل التعافي الاقتصادي من الجائحة.
3- وتضم الحلول أيضاً فرض حد أدنى للضرائب عالمياً، بحيث تُجبر الدول على الالتزام به. والهدف من هذا الأمر هو الحد مما يحصل من «منافسة ضريبية» على اجتذاب الأموال. ​



شبكة العنكبوت البريطانية


يصف تقرير «حالة العدالة الضريبية 2021» بريطانيا وشبكة جزرها بـ«شبكة العنكبوت البريطانية» لأنها مسؤولة وحدها عن 32% من جميع الخسائر الضريبية التي تسببها الشركات، ما يجعل المملكة المتّحدة أكبر مساهم في التهرّب الضريبي من قبل الشركات عالمياً. وهذا التوصيف يشير إلى آليات عمل الجزر البريطانية والإقليم التابعة لها (الجزر البريطانية والأقاليم التابعة لها تقع تحت الحكم القضائي البريطاني) باعتبارها شبكة تهدف إلى استقطاب الأرباح والتدفقات المالية غير المشروعة. لندن تقع في وسط هذه الشبكة، إذ يمكن للشركات أن تعيد تحويل الأموال إلى لندن من هذه الجزر والإقليم من أجل فرض مكان الإقامة الضريبية في تلك الجزر والأقاليم حيث معدلات الضرائب منخفضة.
هذه الشبكة تتيح للشركات التهرّب من ضرائب بقيمة مقدرة نحو 101 مليار دولار سنوياً. وعندما نضيف الخسائر الضريبية بسبب الثروات الشخصية، فإن الشبكة تصبح مسؤولة عن 39.2% من جميع الخسائر الضريبية التي تتكبدها البلدان في جميع أنحاء العالم، ما يكلّف هذه البلدان أكثر من 189 مليار دولار سنوياً.


بالأرقام

223
مليار دولار من الخسائر الضريبية الناتجة من تهرّب الشركات تذهب إلى دول تفرض معدلات ضرائب فعلية تقل عن 10% مثل بريطانيا وسنغافورا وهولندا وسويسرا

21- 32
تريليون دولار هو تقدير مجموع الثروات الموجودة في ما يسمّى «ملاذات ضريبية» بما فيها جميع أنواع الأصول


9.9
تريليون دولار هو تقدير الأصول المالية الموجودة في «الملاذات الضريبية» أي ما يساوي 11% من الناتج الإجمالي العالمي