حالياً، هناك قائد واحد لإدارة الانهيار اسمه رياض سلامة. هو من يقرّر أي جهة تتحمّل الخسائر وحصّتها منها. خلال السنة والنصف الماضية، قرّر الرجل أن يلغي خطّة التعافي الحكومية في سبيل تحميل عموم المقيمين في لبنان الحصّة الأكبر من خسائر النظام المالي. أتاح تعددية أسعار الصرف، وترك التضخّم يأكل الأجور والرواتب والأصول. بمعنى آخر، كان يذوّب الخسائر في جيوب عموم الناس والمودعين بشكل خاص. مفاعيل خطته على المصارف، كانت كالسحر: لم يدفع أيّ مصرف أيّ قرش بعد! ما يُشار إليه أن المصارف خسرت من رساميلها ليس سوى وهم، لأن المصارف تغطي الخسائر من المال العام الذي يواصل التدفق إلى حساباتها من الخزينة، بينما يخسر الناس القسم الأكبر من مدخراتهم ومن رواتبهم ومن قيم أصولهم فضلاً عن الفقر والبطالة والهجرة، ويتناقص مخزونهم الاستراتيجي المعروف باسم «الاحتياطات بالعملات الأجنبية لدى مصرف لبنان». بعد تبذير هذه الاحتياطات لن يبقى سوى الذهب كمخزون استراتيجي يفترض استعماله للنهوض

ما الذي يعنيه قرار المجلس المركزي لمصرف لبنان القاضي بتسديد 400 دولار نقداً من حسابات الزبائن في المصارف ومبلغ مماثل يُصرف على أساس سعر المنصّة الجديد البالغ 12000 ليرة؟
يقول مصرف لبنان إنه يسعى إلى إقفال نحو 800 ألف حساب وطباعة نحو 27 تريليون ليرة، وإنفاق نحو 2.5 مليار دولار مناصفة من احتياطات مصرف لبنان ومن حسابات المصارف بالعملات الأجنبية لدى مصارف المراسلة. وللوهلة الأولى، تبدو خطوة من هذا النوع «جيّدة» باعتبارها تُسدّد بالدولار النقدي أو بسعر السوق قسماً من الودائع المحجوزة، لكن الأمر يتعدّى ذلك، لأن هذه الخطوة أتت في سياق واضح ومعروف: مواصلة مصرف لبنان تنفيذ عملية توزيع الخسائر حصراً عبر السياسات النقدية وبأهداف يحدّدها هو بعد إحباط خطّة التعافي الحكومية في مجلس النواب. هو سياق تدخل فيه أيضاً مجموعة مسائل جارية حالياً، من أبرزها قيام مصرف لبنان بخلق منصّة لبيع «الدولار الفريش»، وقراره بوقف الدعم، وقبلها خلق تعددية في أسعار الصرف، وتنفيذ هندسات مالية معكوسة لامتصاص الهندسات السابقة.

الأرباح تواصل التدفق إلى الكيان المصرفي


3.9%
هو هامش الربحية لدى المصارف على حسابات الليرة اللبنانية في نهاية آذار 2021 مقارنة مع 0.6% في مطلع 2018. فمع انخفاض الفوائد على ودائع الزبائن نحو الصفر أو أعلى قليلاً، بدأ الهامش يرتفع لأن المصارف ما زالت تحصل على إيرادات من التوظيفات في سندات الخزينة ومع مصرف لبنان

3.29%
هو هامش الربحية لدى المصارف على حسابات الدولار في نهاية آذار 2021 مقارنة مع 1.51% في مطلع 2018. في الواقع رغم زعم المصارف بأنها تخسر إلّا أن هذا الهامش يشير بما لا يرقى إليه شكّ إلى أن الأرباح ما زالت تتدفّق إلى الكيان المصرفي المفلس


في ضوء هذا السياق، حدّد البنك الدولي الفئات التي تدفع الفاتورة الأكبر من عملية توزيع الخسائر: الغالبية الساحقة من القوى العاملة، المؤسسات الصغيرة، المودعون. فمن تبعات هذا المسار أنه غذّى تضخّم الأسعار وسط تفاوت كبير في تسعير الأصول والخدمات من خلال أسعار الصرف المتعددة، وكان يضرب الأجور والرواتب، ويخلق الفقر والبطالة ويحفّز الهجرة. لذا، فإن كل شريحة اقتصادية ترتّب عليها حصّة ثقيلة من رغبات رياض سلامة. فهذا الأخير حدّد هذه الفئات وأي حصّة ستطاولها. فعموم اللبنانيين وبحسب قدراتهم الاستهلاكية، كانوا يدفعون ثمن إطفاء الخسائر عبر تضخّم الأسعار. والمودعون كان يدفعون الثمن عبر عملية هيركات سوقية بلغت نسبتها 75% لغاية ما قبل صدور قرار تسديد قسم من الودائع، أما المؤسّسات الصغيرة، فلم يعُد بإمكانها مواصلة عملها في ظلّ تقلص رساميلها ومبيعاتها في الوقت نفسه.
لكن لم يكن هذا هو المسار الذي رسمته خطّة التعافي الحكومية. ورغم أنها لم تكن خطّة مثالية، إنما كان فيها أمران واضحان: الاعتراف بقيمة الخسائر، وتحميل المصارف الجزء الأساسي من الخسائر، بكل قيمة رساميلهم البالغة آنذاك 22 مليار دولار. وقد رفضت خطة التعافي أن يكون إنقاذ المصارف عبر المال العام، مشيرة إلى أن هذا النمط لا ينسجم مع الممارسات الدولية في عمليات إعادة الهيكلة.

حسابات أولية لتوزيع الخسائر
إذاً، كيف تم توزيع الخسائر لغاية الآن، وما التغييرات التي طرأت عليه بعد قرار مصرف لبنان تسديد قسم من الودائع؟
- في حساب مصرف لبنان: أنفق مصرف لبنان بين كانون الثاني 2020 وآذار 2021 نحو 12.8 مليار دولار من بينها أكثر من 6 مليارات دولار ذهبت تحويلات إلى الخارج غير واضحة المقصد لكن يقدّر أنها أموال تهرّبت. وزادت خسائره المخبأة في حساب «الأصول الأخرى» بقيمة 22.4 مليار دولار (على أساس سعر الصرف المعتمد من مصرف لبنان بقيمة 1507.5 ليرات وسطياً) علماً بأن هناك تقديرات بأن هذه الخسائر كانت مقوّمة بالدولار الحقيقي لكنها تتحوّل إلى الليرة.
- في حساب عموم اللبنانيين: تدهورت قيمة الليرة بأكثر من 129% وفق حسابات البنك الدولي. وتضخّمت الأسعار بنسب هائلة بلغت في المتوسط 84% في السنة الماضية، ويقدّر البنك الدولي أن تبلغ 100% في السنة الجارية. وارتفعت نسبة الفقر لتصيب نصف اللبنانيين، ومعدلات البطالة لامست الـ40% وفق التقديرات غير الرسمية، بينما واحد من كل خمسة موظفين صار عاطلاً من العمل، ويتردّد بأن هناك نحو مليون شخص راغبين في الهجرة أو يستعدون لها.
- في حساب المودعين حصل الآتي: أطفئت نحو 22 مليار دولار من ودائع الزبائن، والقسم الأكبر منها استفاد منه كبار المقترضين الذين سددوا ديونهم بأسعار بخسة، بينما خسر المودعون اقتطاعاً من ودائعهم بنسبة وصلت إلى 75% حالياً، علماً بأن ودائع الزبائن بالدولار تقلّصت بقيمة 10.9 مليارات دولار.


بذلك، تكون الخسارة المباشرة التي تكبدها عموم اللبنانيين نحو 12.8 مليار دولار التي أنفقها مصرف لبنان، وفوقها خسائر لمودعي المصارف بقيمة 75% من الودائع المطفأة، أي ما يوازي 16.5 مليار دولار، فضلاً عن خسائر العمل والاقتصاد وفرص الازدهار التي لا تقدّر بثمن.
إذاً، كيف يمكن تقييم خطوة سلامة الأخيرة الرامية إلى تسديد 400 دولار من الودائع نقداً بالدولار، ومبلغ مماثل بسعر صرف المنصة البالغ 12000 ليرة؟
في الواقع، إن حساب توزيع الخسائر سيُضاف إليه الآتي:
- حساب المصارف: تقلّصت رساميل المصارف بقيمة 3.7 مليار دولار في مقابل خسائرها المقدّرة من قبل مصرف لبنان بالآتي: 45% من توظيفاتها في سندات اليوروبونودز، 1.89% من توظيفاتها لدى مصرف لبنان، وتُضاف إلى ذلك ديون متعثّرة بنسبة 33% من مجمل قيمة محفظة تسليفاتها البالغة في آذار 2021 نحو 34 مليار دولار. وإذا أضفنا أنها ستدفع نصف ما سيدفعه مصرف لبنان من أجل تسديد الودائع، فإن الكلفة ستبلغ 1.2 مليار دولار، لكن ليس كل ما ورد هو ما تدفعه المصارف من رساميلها وأصولها الخاصة.
- حساب مصرف لبنان: خلال 12 شهراً سيتم طبع مبلغ 27 تريليون ليرة، أي ما يفوق المبلغ الذي طبعه مصرف لبنان بين كانون الثاني 2020 وآذار 2021، ما سيكون له أثر سلبيّ على خسائر مصرف لبنان. وتزداد هذه الخسائر مع استنزاف العملات الأجنبية التي يملكها، لأنه سيدفع نصف ما دفعته المصارف (على افتراض أنها ستوافق على هذا الطرح وستلتزم به)، أي أن الاحتياطات بالعملات الأجنبية ستتقلص بقيمة 1.2 مليار دولار إضافية، فوق ما سيدفعه مصرف لبنان لتمويل الدعم. وهذه المرّة قد لا يكون الدعم مباشراً، أي أن المصرف سيعلن وقف الدعم، لكنه سيقرض وزارة المال أموالاً بالليرة وهي ستشتري منه الدولارات التي تستعملها في تمويل الدعم. يقدّر أن تكون قيمة هذه المبالغ 3 مليارات دولار.
- حساب المودعين: من أصل 135 مليار دولار يملكونها في المصارف، سيتقاضى المودعون نحو 2.4 مليار دولار نقداً ومبلغ مماثل يُدفع بالليرة اللبنانية وفق سعر صرف المنصّة البالغ 12000 ليرة.


ماذا دفعت المصارف؟
بنتيجة هذه الحسابات، يُفترض أن تدفع المصارف نحو 4.9 مليارات دولار، لكن في الواقع ستدفع أقلّ بكثير لأن غالبية هذه الخسائر موّلتها المصارف من الإيرادات التي تحصل عليها من توظيفاتها في سندات الخزينة وفي شهادات الإيداع والودائع لدى مصرف لبنان، بينما الديون المصرفية السوقية يتم التعامل معها بطريقة الاستيلاء على العقارات والأصول التي يملكها المتعثّرون عن السداد، وهذه العقارات يمكن استعمالها نسبياً من أجل زيادة الرساميل. ويكفيهم أنه لم يتعرّض أي مصرف واحد بعد إلى الإفلاس، أو إلى الإحالة إلى الهيئة المصرفية العليا، بينما كان يجب محاكمتهم على التفريط بمدّخرات الناس ووضع اليد على كل أصولهم الشخصية والمصرفية لتسديد الالتزامات المترتّبة عليهم للناس.
أما في حسابات عموم اللبنانيين والمودعين، فإن الخسائر هائلة جداً. فبالإضافة إلى الخسائر الاقتصادية التي لا يمكن إحصاؤها، والخسائر الناتجة من انعدام القدرة الشرائية، فضلاً عن معدّلات التضخّم والفقر والبطالة والجرة، فإنه من أصل ودائع بقيمة 135 مليار دولار سيستردّ المودعون فقط 2.4 مليارات دولار نقداً ومثلها على سعر المنصّة، والباقي سيكون متروكاً للمصير السابق، أي الهيركات السوقي. لكن هناك مخاطر أعلى من أن تؤدّي طباعة 27 تريليون ليرة وضخّها في السوق إلى تغذية تدهور إضافي في قيمة الليرة، ما يعني أن الخسائر في القوى الشرائية والفقر والبطالة ستكون أكبر.
عموم الناس تحملوا حصة باهظة من توزيع الخسائر ويعدهم مصرف لبنان بالمزيد


لذا، لا يمكن الرهان على أن ضخّ السيولة الدولارية في السوق عبر تسديد قسم من الودائع، يفرض نوعاً من الاستقرار الظرفي في سعر الصرف ويعوّض بعضاً من الخسائر التي تكبّدها المودعون، وخصوصاً الصغار منهم (الذين لديهم حسابات تقلّ عن 500 ألف دولار)، ولا يمكن التفكير أبداً في أن خطوات من هذا النوع تأتي خارج سياق السياسات النقدية السلبية التي اتّبعها مصرف لبنان منذ اليوم الأول. فعندما يوقف الدعم وتتضخم الأسعار بشكل جنوني كما هو متوقع، فإن ثلثي الودائع التي سددها في السوق ستصبّ لتمويل السوق الحرّة ولن تعود إلى المنصّة، لا بل إن المصارف سترى في هذه الأموال فرصة لشرائها بالشيكات المصرفية وتصديرها إلى الخارج لتغطية التزاماتها. الاستفادة من هذه الأموال بالمعنى الواسع لن يكون متاحاً من أجل السيطرة الظرفية على سعر الصرف، بل على العكس قد نرى أن السعر، كما يتدهور حالياً بثبات، سيشهد المزيد من التدهور.


شراء الوقت
إذاً، تسديد الودائع كما يقترح سلامة، هو عملية شراء المزيد من الوقت وإتاحة المجال لإعادة إحياء قدرات المنظومة السياسية - الفاسدة، وتوزيع الخسائر كما يقرّره يهدف إلى إفقار الناس وتهجيرهم وتحويلهم إلى بؤر اجتماعية ساخنة. ولاحقاً إن هذا النوع من توزيع الخسائر سيشمل الذهب بعد نفاد الاحتياطات، بينما تبدو مهمة السيطرة على سعر الصرف، شبه مستحيلة في ظلّ تعددية الأسعار. لا يمكن القيام بخطوات فاعلة في هذا المجال من دون توحيد سعر الصرف الذي يعدّ بمثابة عامل أساسي من أجل إرساء نوع من الاستقرار في بنية الأسواق والعقود. تحفيز الاقتصاد كلّه معلّق على هذا الأمر تحديداً، وعلاقات الناس الاقتصادية مبنية على سعر صرف واضح وإن لم يكن ثابتاً بالمفهوم الكلاسيكي الذي اعتدنا عليه، إنما يجب أن يكون ضمن معادلة واضحة وهوامش ضيقة نسبياً. إصدار موازنة فاعلة ومقبولة يجب أن يُبنى على هذا الأساس أيضاً لأن نفقات الدولة ستتأثّر بالسعر السوقي بشكل هائل، وإيراداتها ستتضاعف في حال اعتماد سعر موحّد.


نحو الركود الشاق والطويل
يقول البنك الدولي إن كل صدمة بنسبة 1% في توسّع الكتلة النقدية المتداولة، تولّد زيادة في التضخّم تعادل 0.8 نقطة على مدى 12 شهراً. لذا، إن مواصلة عملية إطفاء الودائع عبر تحويلها إلى الليرة، وتحويل العجز المالي إلى نقد أيضاً، يعدّ محوراً أساسياً في ما يمكن تسميته البيئة التضخمية. «فعلى افتراض أن سعر الصرف تدهور في 2021 بالنسبة نفسها التي شهدها في السنة السابقة، فنحن نتوقّع أن يبقى التضخّم مرتفعاً في 2021 وربما يتخطّى المعدلات التي سجّلها في السنة السابقة… الركود شاقّ وطويل المدى نظراً إلى النقص في السياسات وصناعة القرار والإصلاحات».