ليس مستغرباً أن يسجّل سعر صرف الليرة مقابل الدولار استقراراً نسبياً خلال الأسابيع الماضية. فالانهيار الأكبر الذي شهده، سُجّل في الفترات التي تلت قرارات السلطة النقدية بمنع تسديد التحويلات غير المصرفية بعملة الدولار، وتسديدها حصراً بالليرة. ورغم أنه لم يظهر وجود أثر مهم على سعر الصرف نتيجة إقفال مطار بيروت الدولي بين 18 آذار و1 تموز بسبب جائحة «كورونا»، إلا أنه كان واضحاً أن الفترة التي تلت فتح المطار أمام الزوار في بداية فصل الصيف، شهدت استقراراً نسبياً في سعر الصرف ناجماً عن قدوم المغتربين إلى لبنان محمّلين بدولارات نقدية لشراء أصول رخيصة أو لتهريبها من الخارج. ففي الفترة التي منع بموجبها مصرف لبنان تسديد الحوالات النقدية بالعملة الأجنبية، أو فرض تسديدها بسعر السوق، سجّل سعر الدولار قفزة هائلة من 2500 ليرة في 12 آذار إلى 9900 ليرة في 3 تموز. هذا الأمر يثير شكوكاً واسعة في خطوات مصرف لبنان وأهدافها التي أسهمت في هذا التطوّر السلبي. وما يعزّز هذه الشكوك، أن مصرف لبنان والمصارف استفادا من هذا التطوّر في سعر الصرف وتعدّد أسواقه، لإطفاء الخسائر في موازنة مصرف لبنان وفي موازنات المصارف من دون أن يبالي أيّ منهما بالضرر الهائل اللاحق بالأسر المقيمة في لبنان ودفعها إلى ما دون خطوط الفقر. أصلاً لولا السماح بتسديد الدولارات بعملة التحويل، ابتداءً من 6 آب، وبالتالي إتاحة صرفها في السوق الموازية بالسعر الفعلي لليرة مقابل الدولار، لكان الضرر أكثر عمقاً في نسيج الأسر وأكثر رغبة في الانزلاق نحو العنف تعبيراً عن انحدارها نحو الفقر.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

خلال عام 2019 بكامله، كان مصرف لبنان ينفذ هندسات مالية مع شركات تحويل الأموال بالوسائل الإلكترونية. فرض عليها بتعميم صدر في 14 كانون الثاني 2019، أن تسدّد قيمة التحاويل الواردة إليها من الخارج، بالليرة اللبنانية حصراً، وأن تبيعه الدولارت التي تحصل عليها. استمر هذا الأمر لغاية 30 كانون الأول 2019، أي بعد مرور 65 يوماً على أحداث 17 تشرين التي تخللها إقفال أبواب المصارف لفترة زمنية غير معتادة وتطورات أمنية واجتماعية خطيرة، فضلاً عن تسارع انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار متجاوزاً الـ2000 ليرة مقابل الدولار الواحد لأول مرّة بعد تثبيت بدأ في عام 1998، فأصدر تعديلاً للتعميم السابق يطلب بموجبه تسديد قيمة التحاويل بذات عملة التحويل، أي بالدولار أو باليورو... جاء هذا التعديل بعد شحّ هائل في التدفقات المالية بالدولار خلال النصف الثاني من عام 2019 على وقع القيود غير الشرعية وغير النظامية والاستنسابية التي فرضتها المصارف على حسابات الزبائن وعمليات التحويل والسحب، ما أدّى إلى تراجع مخزون العملات الأجنبية لدى مصرف لبنان من 31 مليار دولار في تموز 2019 إلى 29.5 مليار دولار في نهاية كانون الأول 2019 (الفرق في المخزون هو مؤشر ولا يعكس بالضرورة حجم المبالغ التي أُنفقت والتي يتطلب إحصاؤها أرقاماً دقيقة عن عمليات التدفق والإنفاق من المخزون).
وفي الأشهر الأولى من عام 2020، بلغ معدل التحويلات الشهرية الواردة إلى لبنان نحو 5ملايين دولار، واستمر المعدل بالارتفاع رغم بدء موجات انتشار جائحة «كورونا» حول العالم وإقفال الكثير من الاقتصادات لكبح انتشارها وإقفال مطار بيروت في 18 آذار. وفي نيسان بلغ المعدل ذروته القصوى مسجلاً 150 مليون دولار شهرياً، لكنّ مصرف لبنان قرّر إجراء تعديل إضافي وأصدر في 16 نيسان تعميماً يطلب بموجبه تسديد قيمة التحاويل وفقاً لسعر السوق الذي تحدّده مديرية العمليات النقدية لدى مصرف لبنان.
أدّى هذا القرار إلى انحدار تدريجي في معدل التحويلات الشهرية ليبلغ 30 مليون دولار شهرياً في تموز. وفي أول تموز انتهى إقفال مطار بيروت، وبدأت الطائرات تعود إلى لبنان محمّلة بمغتربين يحملون دولاراتهم معهم نقداً. وفي 4 آب حصل انفجار مرفأ بيروت، ثم قرّر مصرف لبنان للمرة الرابعة تعديل التعميم سامحاً بتسديد التحويلات بالدولار، ما أدّى إلى زيادة في معدل التحويلات بنسبة 50% في شهرَي آب وأيلول، وفقاً للإحصاءات التي حصلت عليها «الأخبار».
في المحصّلة، بلغت قيمة التحويلات الواردة إلى لبنان بواسطة الشركات غير المصرفية، نحو 1.1 مليار دولار منذ مطلع السنة ولغاية نهاية تشرين الثاني. وهذه التحويلات هي الداعم الحقيقي للأسر والاقتصاد اللبناني. عملياً هذه الدولارات يستخدمها النظام الاقتصادي من أجل إعادة تمويل الاستيراد السلعي والخدماتي. فالإحصاءات تشير إلى أن أكثر من 150 ألف عائلة تستفيد شهرياً من هذه التحويلات النقدية بالدولار، وأن عدد التحويلات زاد بنسبة 15% مقارنة مع السنة الماضية، فيما بلغ معدّل التحويلة الواحدة نحو 600 دولار، مقارنة مع معدل تاريخي بقيمة 650 دولاراً، و60% من التحويلات الواردة تبلغ قيمتها 300 دولار، أي أن المغتربين لم يتخلّوا عن أسرهم في لبنان وإن كانوا قد خفّفوا من تحويلاتهم في الفترات التي لم يسمح فيها مصرف لبنان بتسلّم الدولارات المحوّلة. هذه الأموال هي جزء أساسي من الاستقرار النسبي لسعر الصرف، وخصوصاً أن المعطيات المسرّبة من المصارف تشير إلى أن حجم التحويلات الواردة إليها من المغتربين لغاية نهاية تشرين الثاني، لا تتجاوز المليار دولار. أيّ وقف لهذه التحويلات هو محاولة لخنق الأسر والاقتصاد وتدهور إضافي ومتسارع في سعر الصرف.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا