قبل نحو ربع قرن، استولت شركة خاصة على الأراضي الخاصة والعامة في وسط بيروت. حصل الأمر بتغطية من كامل الطبقة السياسية. المعترضون، على ندرتهم، لم يكونوا أصلاً من صلب هذه الطبقة. يومها جرى الاستيلاء على مساحة 1.1 مليون متر مربع من الأراضي، ثم أضيف إليها نحو 870 ألف متر مربع من المساحات المردومة في البحر. قيمة هذه العقارات يمكن أن تُحتسب بطرق مختلفة لجهة المساحات القابلة للبناء، أو وجهة استعمال الأراضي والخدمات فيها... المهم، أن لجان التخمين خمّنت قيمة الأراضي المستولى عليها بـ1170 مليون دولار لنحو 1630 عقاراً بمعدل سعر 1532 دولاراً للمتر المربع من الأرض رغم أن الأسعار كانت تتراوح بين 2500 دولار و4000 دولار في ذلك الوقت، وبسعر 100 دولار للمتر المربع من البناء، رغم أن الأسعار كانت تتراوح بين 300 دولار و500 دولار.
المديرية العامة للشؤون العقارية | تصميم: رامي عليّان | أنقر على الرسم البياني لتكبيره

سرد ما حصل في الوسط التجاري لمدينة بيروت، والذي بات يُسمى اليوم زوراً «سوليدير» ضروري من أجل منع تكرار ونسخ التجربة مجدداً في ظل الأفكار المطروحة عن تمويل خسائر المصارف وكبار المودعين بأراضٍ تملكها الدولة في مختلف المناطق. ففي ذلك الوقت لجأت سلطات الميليشيا إلى ذريعة تفيد بأن الدولة الخارجة من الحرب الأهلية ليست قادرة على ترميم الوسط التجاري، وأن مالكي العقارات والمستأجرين ليسوا قادرين على إنجاز الترميم بما ينسجم مع فكرة تطوير وسط العاصمة. هكذا نُسفت ذاكرة بيروت كلّها، بشوارعها وأسواقها ومؤسّساتها وتنوّعها الجغرافي والطائفي، لإحلال مدينة «غريبة» بشكلها وامتدادها العمراني والسكاني. كان الهدف الاستيلاء على هذه العقارات بسعر زهيد. وفي المحصّلة باعت «سوليدير» أكثر من نصف الأراضي وبقي لديها مخزون يُقدّر بقيمة 2.1 مليار دولار. المبيعات موّلت صفقات الإنشاءات والتبادلات في إطار الانتفاع الضيّق والواسع... كل ذلك حصل بينما أصحاب الحقوق يناضلون من أجل استعادة الأمتار التي جرى تحويلها بقوّة النفوذ السياسي إلى أسهم زهيدة الثمن!
هذه القصّة على مشارف أن تتكرّر اليوم مع فروقات شكليّة. فبسبب الخسائر التي مُنيت بها المصارف جراء توظيف أموال المودعين لدى مصرف لبنان وتبديدها من قبل هذا الأخير، يتركّز الحديث عن عملية إنقاذ للمصارف ولكبار المودعين على حساب أصول تملكها الدولة اللبنانية من أراضٍ وسواها. طبعاً هناك تركيز على شركتَي الخلوي وشركة طيران الشرق الأوسط وكازينو لبنان وشركة انترا، لكن الأراضي الخاصة التي تملكها الدولة تستحوذ على الكثير من اهتمام الساعين للاستيلاء عليها بأثمان زهيدة، كما حصل يوم أُعطي الوسط التجاري لشركة «سوليدير».
بحسب إحصاءات المديرية العامة للشؤون العقارية، فإن الدولة اللبنانية تملك نحو 60480 قطعة أرض مساحاتها الإجمالية تبلغ 859.6 مليون متر مربع. من ضمن هذه الأراضي هناك 32387 عقاراً مجهولة المساحة. تستحوذ المدن الساحلية على عدد كبير من هذه العقارات، أي أن أسعارها هي الأعلى. مدن صيدا وصور وطرابلس وجبيل وبيروت تستحوذ على 14.4% من عدد العقارات، و6.8% من المساحات الإجمالية. بيروت وحدها لا تستحوذ على عدد كبير من العقارات رغم أنها الأغلى سعراً. فيها نحو 383 قطعة أرض مساحاتها الإجمالية تبلغ 996 ألف متر مربع. النسبة الأكبر من الأراضي التي تملكها الدولة تقع في بعلبك ــ الهرمل. في هذه المنطقة أكثر من 660 مليون متر مربع، وفي البقاع مساحات وافرة أيضاً منها 58 مليون متر مربع في البقاع الغربي و35 مليوناً في زحلة.
أهمية إحصاءات هذه الأراضي لا يجب أن تكون مرتبطة بإنشاء صندوق سيادي لإنقاذ المصارف وكبار المودعين فيها، بل يجب أن تكون في إطار إدارة هذه الأملاك ومنع التعدّيات المتواصلة عليها (لا يدخل ضمنها التعديات على الأملاك البحرية والنهرية). ففي الواقع، يمكن استثمار هذه الأراضي بطرق مختلفة تقع ضمن التوجهات المفترضة للانتقال من الريع إلى الإنتاج. فأراضي الدولة في البقاع وعكار والجنوب يمكن استثمارها زراعياً، والأراضي الساحلية أو شبه الساحلية يمكن استثمارها لمشاريع إسكانية شبه مجانية ومجانية لمتوسطي الدخل والفقراء، وهناك مناطق يمكن استثمارها لتكون عبارة عن مناطق صناعية تنتقل إليها الصناعات المطلوب إنشاؤها لإنتاج سلع محلية بدلاً من تلك المستوردة. ثمة الكثير من الأفكار لإدارة هذه الأملاك ليس ضمنها التخلّي عنها مجاناً لحفنة من المرابين في العمل المصرفي، لكن كل ذلك يبدأ بتعديل القانون 275/26 لتوسيع فترات إيجار الأرض وتنظيم هذا النوع من الاستثمارات ضمن الأولويات الاقتصادية والاستثمار الاجتماعي. هذه الأراضي لا يجب أن تُستعمل في الريع مجدداً لا على أيدي من يسمون أنفسهم رجال أعمال أو كبار المودعين ولا على أيدي شركات عقارية أو مصرفية. وجهة الاستعمال الأساسية والوحيدة هي الوجهة الاجتماعية والإنتاجية.