ارتفعت عمليّات سحب تعويضات نهاية الخدمة المٌبكرة، أي عمليّات تصفية التعويضات التي يقوم بها العاملون قبل بلوغهم سنّ التقاعد لأسباب استثنائية، بنسبة 194% بين عامي 2010 و2018، إذ ارتفعت من 5 آلاف و124 عملية إلى أكثر من 15 ألف عملية سحب، وفقاً للإحصاءات الصادرة عن الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي. في حين لم يتجاوز متوسّط قيمة تعويض كلّ عامل قيمة 9 آلاف و500 دولار أميركي، وهو ما يوازي عملياً، راتب ثمانية أشهر قياساً إلى متوسّط الراتب الشهري في لبنان البالغ 1200 دولار، أو راتب 21 شهراً استناداً إلى الحدّ الأدنى للأجور في لبنان والبالغ 450 دولاراً أميركياً.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

السبب الرئيسي لسحب التعويضات مُبكراً وتصفيتها قبل استحقاقها وقبل بلوغ الموظّفين سن التقاعد القانونية، هو الوضع المتعثّر للكثير من المؤسّسات الاقتصادية العاملة في لبنان، وفق ما يشير الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، وهذه المؤسّسات اضطرت للإغلاق تباعاً خلال السنوات السبع الأخيرة تحت وطأة اشتداد الأزمة المالية والاقتصادية، ودخول البلاد حالة من الركود، بحيث تراجع النموّ الاقتصادي خلال هذه الفترة من أكثر من 10% في عام 2010 إلى نحو 0.2% في عام 2018، وفقاً لبيانات صندوق النقد الدولي، وهو ما أجبر موظّفي هذه المؤسّسات على سحب تعويضاتهم قبل استحقاقها لسدّ تكاليف معيشتهم اليومية بعد تعطّلهم عن العمل.
يدلّ هذا المؤشّر إلى عمق الأزمة التي يواجهها المقيمون في لبنان، والمستقبل القاتم الذي ينتظرهم، خصوصاً أن معدّلات التعطّل عن العمل سترتفع أكثر وأكثر، وستزداد حدّتها نتيجة اضطرار الكثير من المؤسّسات لإغلاق أبوابها، بسبب الركود الانكماشي الذي دخل لبنان في دوّامته، والذي قد ينعكس إلى نموّ سلبي في نهاية عام 2019، مع توقّع استمراره في عام 2020 أيضاً، وفق تقديرات صندوق النقد الدولي الأخيرة، وهو تطوّر لم يشهده الاقتصاد اللبناني منذ عام 1998.
هذه الدوّامة تلقي بظلالها على الاقتصاد اللبناني، وهي مدفوعة بشكل رئيسي بالسياسة التقشّفية التي تتبعها الحكومة اللبنانية، والسياسة الانكماشية وضبط السيولة التي يتبعها مصرف لبنان، وارتفاع أسعار الدولار في السوق اللبنانية نتيجة القيود التي تفرضها المصارف بصورة غير منظّمة، وهي كلّها عوامل لا تؤثّر فقط على تراجع الاستهلاك، وبالتالي عملية استيراد السلع الأساسية، وإنّما تؤثّر أيضاً على استيراد السلع الأوّلية التي تدخل في عمليات الإنتاج المحلّي، بحيث تراجع الاستيراد خلال النصف الأوّل من العام الحالي بنحو 16.4%، من دون احتساب عمليات استيراد المنتجات المعدنية التي شهدت ارتفاعاً بنسبة 100% تقريباً نتيجة حركة التهريب النشطة نحو سوريا.
هذا الواقع الضاغط على الاقتصاد والمجتمع سيضع الناس أمام خيارات محدودة تقضي باستنفاد ما تبقّى من مدّخراتهم للحفاظ على مستوى معيشتهم، أو القبول بتراجعها، أو الهجرة.