في وقت سريع، تغيرت الأحاديث في الغرف المغلقة لرجال السياسة في مصر، من إمكانية رحيل الرئيس عبد الفتاح السيسي، بعد انتهاء الولاية الأولى له في حزيران 2018، إلى التساؤل عن قدرته على اجتياز ما بقي منها، دون ازدياد الغضب الشعبي، وهل سينجح في أن يكون أول رئيس مصري «منتخب» يخرج من السلطة دون مشكلات، بعدما حصل على أغلبية كاسحة في انتخابات انعدمت فيها فرصة المنافسة لدى أي بديل.اللغة السياسية، التي تغيرت كثيرا في الأسابيع الأخيرة، أوقفت أي سيناريو لإمكانية دعوة مجلس النواب (ساهم في تشكيل أغلبيته جهاز «المخابرات العامة») إلى اجراء تعديلات دستورية تتيح للرئيس الاستمرار في السلطة لأكثر من دورة وليس دورتين فقط، أو حتى زيادة ولاية الرئاسة لتكون ست سنوات بدلاً من أربع. كما أن معارضي السيسي بدأت جبهتهم في التوسع، فمن صمتوا أو اكتفوا بمقعد المتابع للأحداث منذ وصوله إلى الحكم عادوا للظهور بقوة. لكن سؤال البديل يبقى الأصعب على الجميع، فحتى الآن لم يشر أحد إلى بديل يمكن أن يحظى بتوافق يجعله رئيساً للمصريين خلفاً لـ«الجنرال»، في أي انتخابات مقبلة، أو ما بعدها.
التغير البارز تأثر عائلات الطبقة المتوسطة بالإجراءات الاقتصادية

بين كل ذلك، الشيء الأكيد هو أن الرجل الآتي من المؤسسة العسكرية خسر كثيراً من شعبيته خلال الشهور الماضية، ليس بسبب موافقته على ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية والتظاهرات الشعبية ضدها، ولكن أيضا لارتفاع الأسعار بمعدلات فاقت نسبة 20% نتيجة نقص الدولار الأميركي وزيادة البطالة بدرجة ملحوظة ووقف الحكومة التعيينات في الجهاز الإداري للدولة... وصولا إلى تناقص قيمة الرواتب التي جعلت قطاعا كبيرا من عائلات الطبقة المتوسطة غير قادر على توفير الاحتياجات الرئيسية.
جرّاء ذلك، لا يبدو الرئيس قادراً على المواصلة بالحجج نفسها، فالمشروعات القومية التي أطلقها لم تحقق أي تحسن اقتصادي، وفزاعة «مواجهة الإرهاب» لم تعد تكفي المواطنين لتحمل الظروف الاقتصادية السيئة، ولا تبرر ارتفاع سعر الدولار أمام الجنيه بأكثر من 30% في السوق الموازية، وتخفيض قيمة العملة المصرية بنحو 15% رسمياً، ما جعل ارتفاع الأسعار يصل إلى نحو 40% في مقابل بقاء الأجور كما هي بعلاوات طفيفة، إضافة إلى زيادة في أسعار الكهرباء والمياه والمحروقات، التي غاب عنها الدعم المالي الخليجي المباشر.
وبأثر رجعي، يواجه السيسي مشكلات مرتبطة بعجزه عن الوفاء بوعوده في حملته الانتخابية، ولعل وراء ذلك نتيجة السياسات التي سعت إلى مجد شخصي لا يناسب الموارد المالية المتاحة. مثلاً، كان اختصار مدة تنفيذ التفريعة الجديدة لقناة السويس في عام واحد هو السبب في النقص الحاد للاحتياطي النقدي وما تلا ذلك من مصائب مالية، برغم أن دراسات اقتصادية حذرت من ذلك مسبقاً.
وبدلاً من حل مشكلة الإسكان بمشروع المليون وحدة سكنية التي وعد بها الرجل، تفاقمت أسعار العقارات بعدما طرحت الحكومة شققا لمتوسطي الدخل تجاوزت قيمتها 70 ألف دولار، في دولة قال تقرير «التنافسية العالمية» إن متوسط دخل الفرد فيها 3304 دولارات سنوياً، وهو ما دفع القطاع الخاص إلى زيادة أسعار العقارات بنسب تزيد عن 40% في غالبية المناطق خلال العامين الماضيين، بعدما شهد هذا القطاع ركوداً استمر منذ «ثورة يناير» في 2011.
لا يمكن النظر إلى الضيق الشعبي من قرارت السيسي الاقتصادية دون قرنها بالإعلان بين حين وآخر عن زيادة رواتب العسكريين ومعاشاتهم، بالإضافة إلى صفقات السلاح الكبرى بمليارات الدولارات، وهي إن كانت «ضرورة» في ظل أوضاع البلاد المجاورة كما يرى السيسي ومن حوله، لكنها تجرّ التساؤلات عن آليات توفير العملة الصعبة للعسكر، مقابل نقصها لدعم السلع التي زادت أسعارها، برغم وعد الرئيس مرارا بضبطها.
لكنّ قيمة الدعم انخفضت ولا تزال مرشحة لمزيد من التراجع، وفق برنامج الحكومة الذي استفاد من تخفيض العملة المصرية، فيما تستمر الشكاوى من ملايين الأسر بسبب الزيادات غير المبررة في أسعار المرافق، ما يعني أن المصريين أمام مرحلة فاصلة في مصير الطبقة المتوسطة التي تشكل أكثر من نصف المجتمع.
كذلك، لا يمكن الحديث عن المشكلات الاقتصادية والسياسية دون الالتفات إلى عودة انتهاكات وزارة الداخلية والتعذيب في السجون والاختفاء القسري المتزايد والتضييقات على منظمات المجتمع المدني، فضلا على صراعات الأجهزة الأمنية، وكلها أحاديث غمرت «مرحلة ما بعد السيسي» والملامح المحتملة لها. لعل هذا هو التفسير الواضح لكلام الرجل خلال لقائه «القوى الوطنية» عن وجود مؤامرة داخلية لم يتحدث عن تفاصيلها. والخوف أن يعني ذلك قرارات مصيرية ستواجه المصريين الذين ملوا السياسة وصار همهم الأول توفير قوتهم في دوامة عمل تمتد لأكثر من 16 ساعة يومياً.
وضمن صراعات الأجهزة، باتت تتحرك قصة «ما بعد السيسي» بين الإعلاميين المقربين منها، وهو ما دفع آخرين إلى التحذير من تبعات أي تغيير سريع في السلطة، ودون تفكير في تبعات القرار داخلياً وخارجياً، ولا سيما أن الأزمة الاقتصادية في توفير الدولار (اعترف بها وزير المالية عمرو الجارحي أمام «غرفة التجارة الأميركية») وصلت معدلات قياسية. الأخطر أن المؤسسة العسكرية تبدو داخل المعادلة، لكن بصورة مختلفة. فالسيسي، الذي ترأسها قبل خوض الانتخابات، أكد أنها تساند الشعب المصري وستتحرك عندما يخرج الشعب إلى الشارع.
برغم ذلك، عنصر المفاجأة حاضر بانتظار تطورات الأحداث خاصة مع ترقب تظاهرات 25 نيسان الجاري. فهل تنجح محاولات «الجنرال» في احتواء صراعات الأجهزة خاصة في ظل اللقاءات المكثفة التي يجريها مع قياداتها وآخرها مع وزير الداخلية ومساعديه، أم سيواجه مصير أصعب من سابقيه، بخروج «غير لائق» من السلطة، وخاصة مع استمرار تفتت «جبهة 30 يونيو» التي دعمت وصوله إلى السلطة؟