منذ أن انطلقت التحركات الرافضة لتعامل الحكومة مع أزمة النفايات، بدأ أرباب السلطة بمحاولة ركوب موجة الحراك، وانتشرت الأقاويل عن السعي إلى إفشال الحراك عبر دسّ جماعات في التظاهرات لإثارة الشغب. بالمقابل، يحاول بعض منظمي التحركات أن يوحوا بأنّ جميع الناس في الساحة هم أشخاص مستقلون ليس لديهم أي انتماء سياسي، إنّما المشهد في الشارع مختلف وأكثر واقعية وصدقاً.
الناس الذين نزلوا خلال اليومين الماضيين إلى ساحة رياض الصلح ليسوا كتلة واحدة كما يحاول البعض تصويرهم. هم ليسوا جماعة متجانسة، وليسوا أشخاصاً مستقلين لا ينتمون إلى أحزاب، لكن هذا بالتأكيد لا يعني أنّ «غير المستقل» هو مندس وفق النظرة الإلغائية لبعض منظمي حملة «طلعت ريحتكم». الناس نزلوا بشكل فردي، لا كجماعات، وهو أمر جيّد يؤكد عفوية معاناتهم وصدقيتها.
الأشخاص الذين أبدوا دعمهم لزعيم أو حزب ما، إنما أكّدوا أنهم يرفضون هذا الذل، وأنهم لن يتحمّلوا انقطاع الكهرباء والماء والبطالة والفقر بعد اليوم، هؤلاء هم الناس الحقيقيون الذين قرروا في لحظة معيّنة أن يتحركوا، وهؤلاء من يُعوّل عليهم للتغيير.
منذ أول من أمس نصب علي، ابن الـ 23 عاماً، خيمةً وسط الساحة وأعلن أنه لن يغادرها. يقول إنه أتى «من الشياح، يعني من نص دين حركة أمل»، لكن لماذا أتى؟ من أجل أزمة النفايات أم إسقاط النظام؟ يرتبك قليلاً بحثاً عن جواب ملائم، فيقول مع ابتسامة خفيفة: «أنا عاطل عن العمل، يوم بشتغل عشرة لأ. وصلت للأول ابتدائي ما كفيت علم لأن الظروف صعبة، بيي بيشتغل بـ 500 ألف ليرة كل الشهر. ما بدي تنحل أزمة الزبالة بس، بدي نأمن فرص عمل وتجي الكهربا والماي».
في الخيمة المنصوبة أمام قوى مكافحة الشغب يجلس فادي الطويل ابن الـ 29 عاماً. يبدو التعب جليّاً عليه، خصوصاً أنه أمضى ليل أول من أمس يحاول أن يهرب من رصاص القوى الأمنية وقنابلها. يروي أنه كان في عمله في وسط بيروت، ورأى الناس يُضربون ويُرشقون بالرصاص، فقرر أن ينضم إليهم لأنهم «نازلين كرمالنا».

انتقاد الحملة أصبح واجباً كي لا تقع في فخاخ السلطة

يقول إنه مع تيار المستقبل، لكنه في الساحة لأنه يريد حقوقه أو وفق تعبيره «الحد الأدنى من حقوقي التي يجب أن أحصل عليها بصفتي مواطناً بعيداً عن أي انتماء حزبي». لكن كيف يمكن شخصاً ينتمي إلى تيار المستقبل أن يتظاهر ضد أزمة النفايات التي يشكل تيار المستقبل عنصراً أساسياً فيها؟ يقول بصراحة وعفوية: «أنا بالاسم مع تيار المستقبل، بس هيديك المرة ما انتخبت حدا لأن بس توقع بأي مشكلة ما حدا بيسأل عنك، بس نوصل لآخر الشهر ما معنا مصاري ناكل ما حدا بيطّلع فينا». يؤكد فادي أنّ مطلبه «استقالة الحكومة وأولهم وزير الداخلية المحسوب على تيار المستقبل». هل تنسحب إذا طلب التيار من مناصريه التراجع؟ يجيب بسرعة: «لأ، أنا نزلت مش لأن التيار قلي إنزل. أنا بشتغل 12 ساعة بالنهار معاشي ما بقديني لنص الشهر كرمال هيك نزلت».
مهنا، ابن العشرين عاماً، نزل من بعلبك نهار السبت ليشارك في التظاهرة. يُنكر انتماءه إلى أي حزب، ويقول: «أنا جيت لأن بدي توصل الماي عبيتي، بدي إشتغل وبدي عيش». يلتف حوله مجموعة من الشبان المشاركين في الاعتصام الذين يريدون فعلاً أن يقولوا لماذا أتوا فترتفع الأصوات: «أنا يوسف غضبان، من الدامور، عمري 42 سنة جيت لأن ما بدي ولادي يعيشوا نفس الحياة يلي أنا عشتا»، «أنا محمد من الضاحية ومع حزب الله بس شو هالعيشة، نزلت لأن إلي سنة ما عم اشتغل، يستقيلوا كلن».
وسط هذه الأجواء الصادقة والعفوية، يأتي أحد منظمي حملة «طلعت ريحتكم» ليطلب بحذر وبنظرة طبقية ونخبوية أن لا نتحدث مع هؤلاء الشباب (الذين يرتدون «بروتيلات» ويضعون عصبة على رأسهم)، فيهمس «هؤلاء لا يمثلون حملة طلعت ريحتكم، مندسّين»، مشيراً إلى مجموعة من الأشخاص «المرتبين» الذين يمكن أن يعكسوا الوجه الحقيقي للحملة!
هذه النظرة الطبقية والتمييزية ضد الفقراء تُرجمت فعلياً على الأرض منذ نصب الخيم، إذ فُصلت خيم هؤلاء عن خيم «المرتبين»، وقاد «شباب الأحزاب» التظاهرة في ساعات الصباح ورددوا شعارات إسقاط النظام، فيما تراجع ممثلو «الوجه الحقيقي للحملة» إلى الصفوف الخلفية.
انتقاد الحملة أصبح واجباً كي لا تقع في فخاخ السلطة، وأوّلها الإصرار من قبلهم على الابتعاد عن السياسة ونبذ كل شخص لديه انتماء سياسي، متناسين أنّ الشعب اللبناني هو شعب «محزّب» بطبيعته. وهنا، تظهر المشكلة الأساسية، إذ إن هؤلاء نفسهم لم ينفكوا يوماً عن مطالبة الناس بالانتفاض على زعمائهم، وعندما انتفض الناس سارعوا الى تصنيفهم واعتبارهم مندسين!
الناس الذين انتفضوا خلال اليومين الماضيين، لم يشاركوا فعلياً من أجل إيجاد حل لأزمة النفايات، وهو ما يتّضح من شهادات معظم من كانوا في الساحة. الناس يبحثون عن معيشة جيدة، عن عمل وماء وكهرباء ومستقبل مشرق لأبنائهم، أمّا النفايات فليست سوى شرارة المعركة.
أما ما حصل في ساعات الليل من شغب اتُّهم بافتعاله مندسون، فلا يبرر إطلاقاً، إن كان صحيحاً، وصم جميع المنتمين إلى الأحزاب الذين شاركوا بالتظاهرة بأنهم مندسون.