سباق أميركي إيراني محموم على بغداد تشارك فيه بفعالية كل من لندن والرياض، انعكس اشتباكاً داخلياً وأزمة سياسية يظهر أنها عصية على الحلّ. الثابت الوحيد فيها يبدو، حتى اللحظة، رئيس الحكومة حيدر العبادي الذي يحظى برضى القوى الإقليمية والدولية المعنية بهذا الملف، في ظل مفارقات لافتة، لعلّ الأبرز فيها تقاطع مصالح وضع أعداء الأمس في خندق واحد، وجهود إقليمية تسعى إلى لملمة الأوضاع خشية من الأسوأ في بلد دخل مصاف «الدول الفاشلة»، بعدما انهارت مؤسساته كافة وبلغ حافة الإفلاس.
تجمع الأطراف العراقية كلها على أن «أميركا عادت إلى العراق أقوى ممّا كانت عليه قبل انسحابها عام 2011». «عودة ناعمة»، هي الثانية من نوعها خلال عقدين من الزمن. اللافت فيها طبيعة الحراك الأميركي في العراق «حيث اللعب بات على المكشوف. الكل ينسق مع الأميركيين ويلتقي بهم علناً».
حراك موازٍ للحراك الأميركي تقوم به السعودية، التي بات واضحاً أنها تعمل على مسارين: الأول، حركة نشطة للسفير السعودي ثامر السبهان المنفتح على جميع الأطراف دون استثناء. أما الثاني فحركة نشطة تحت غطاء مراكز أبحاث تتواصل مع من لديه إحراج من اللقاء بالسفير علناً. اجتماعات تقدّم فيها جميع أنواع الإغراءات وتبرم في خلالها الاتفاقات والتفاهمات.
طرح العبادي خلال مناقشة «وثيقة الشرف» دمج الوزارات خلافاً للتفاهمات

أوساط قريبة من العبادي تؤكد أن «حلفاءه الطبيعيين، المحليين والإقليميين، لم يحسنوا التعامل معه، بل يمكن القول إنهم دفعوه دفعاً إلى الحضن الأميركي». تضيف أنه «محاور مرن، دمث الأخلاق، لكنه متردّد كثيراً. لعلّ السبب كبر حجم المسؤولية، أو ربما أدوات الحكم الضعيفة التي يمتلكها. ذلك أعطى الانطباع بأنه شخصية ضعيفة»، مشيرة إلى أن «من أبرز الدلالات على ذلك عجزه عن تحقيق الإصلاح، رغم أنه كان أول رئيس وزراء يحظى بدعم المرجعية». وتوضح أنه «لم يبادر إلى عملية إصلاح حقيقية، في وقت كان فيه الجميع مستعدّا لتقبل ذلك، في ظلّ موجة التظاهرات الأولى التي اجتاحت العراق والتي أقعدت كافة المسؤولين فيه في منازلهم وعينهم على الفايسبوك يترقبون الساعة التي ستظهر فيها أسماؤهم ويحاسَبون». تتابع الأوسط نفسها أنه «كان يجب أن يستغل دعم المرجعية والشارع من أجل إصلاح حقيقي. أضاع الفرصة ومنحها للتيارات السياسية لتدخل على الخط وتصادر عملية الإصلاح لتغطي نفسها. طرحت نفسها، وهي التي ينخرها الفساد جميعها، عرّابة الإصلاح لكسب الشارع». وتختم بالقول «لعلّ الخطأ الأساس الذي ارتكبه كان إلغاء مناصب نوّاب الرؤساء الثلاثة، والتلهي بتغيير الحكومة، ما أثار الجميع ضده من دون أن يحقق شيئاً».

إقالة أم بقاء

مصادر رفيعة المستوى في «التحالف الوطني» تؤكد أنه «بعدما قدم تشكيلته الحكومية الأولى (31 آذار)، التي رفضتها الكتل السياسية، تفاهم الجميع على ضرورة تغيير العبادي. وضعوه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما حكومة محاصصة تمثل الكتل البرلمانية، ولو كانت من التكنوقراط، وإما طرح الثقة بك في البرلمان». لم تكن تلك المرة الأولى التي يُبحث فيها تغيير العبادي. قبلها، أيام التظاهرات الأولى (أوائل آب الماضي)، طُرح الأمين العام لمنظمة «بدر» هادي العمري بشكل جدي لخلافة العبادي. قيل وقتها إنه كان يحظى بدعم إيران وعدم ممانعة الولايات المتحدة. بل قيل إنه نام ذات يوم رئيساً للحكومة ليستيقظ في اليوم التالي على ما هو عليه. المعلومات شحيحة عمّا غيّر المعادلة حينها. المبرّرات المعلنة ركزت على أمرين: عدم السماح بسابقة إسقاط رئيس حكومة في الشارع، والقلق من العجز عن التفاهم محلياً على بديل في ظل وضع أمني خطير.
في المرة الثانية، وبالتزامن مع زيارة الموفد الرئاسي الأميركي إلى بغداد، الجمعة 15 نيسان، فوجئ الجميع بأن تغيير العبادي لم يحظَ برضى إيران ولا الولايات المتحدة. أما الحجة، فإن الوضع الأمني والعسكري في البلاد لا يحتمل. تقاطع إيراني أميركي ظرفي، لكنه يستبطن خلافاً جوهرياً: واشنطن تريد دفع الأمور نحو تطهير الحكومة من الأحزاب السياسية لمصلحة تكنوقراط قريبين منها. أما طهران، التي لا شك في أنها تخسر إذا تحقق السيناريو الأميركي، لكون غالبية الأحزاب العراقية قريبة منها، فهي متمسكة بحكومة حزبية.

التحالف الثلاثي

جرى التفاهم على حلّ وسط، بتأليف لجنة تشاور الأحزاب التي تقدم لائحة مرشحين من قبلها لتقلّد مناصب وزارية، على أن يكونوا أقرب إلى التكنوقراط. قدمت اللوائح وجرى تعيين جلسة يوم الثلاثاء 12 نيسان عند العاشرة صباحاً. تأخّر العبادي فأرجئت إلى الثانية من بعد الظهر، لكن رئيس الحكومة عوض أن يمثل في القاعة العامة، توجّه لدى وصوله إلى مكتب رئيس المجلس سليم الجبوري، الذي عقد معه اجتماعاً مطولاً، تسلّم في خلاله التشكيلة الجديدة من العبادي الذي غادر من دون المشاركة في الجلسة العامة، التي أرجئت إلى يوم الخميس. تسرّبت معلومات أن الجبوري، في هذا الاجتماع، تفاهم مع العبادي على تغيير مرشحي الأخير لشغل حصة السنّة في الحكومة، ما أشعل موجة غضب كانت ثمرتها الاعتصام والجلسة الشهيرة التي جرى خلالها إقالة الجبوري.
في تلك الجلسة، حيث تحالف نواب من مشارب مختلفة ــ بلغ عددهم 172 نائباً ــ برز تفاهم موضوعي بين أطراف ثلاثة: «التيار الصدري»، ونوري المالكي وأياد علاوي. تقاطع مصالح ظرفي على إجهاض حكومة العبادي، كل من موقعه. مقتدى الصدر لا يمانع بالعبادي، ولكنه يرفض تشكيلته الحكومية. يريد اختيار التشكيلة الحكومية بنفسه، رغم أن هناك من يؤكد أن للصدر مرشحا لرئاسة الحكومة سيطرحه في اللحظة الأخيرة. نوري المالكي يريد إسقاط العبادي بأي ثمن. لم ينسَ «تآمره» عليه يوم حلوله مكانه في رئاسة الحكومة، فضلا طبعاً عن أنه لم يغفر له إقالته من منصبه كنائب رئيس ولا محاولة عزله من قيادة حزب «الدعوة». كذلك الأمر بالنسبة إلى أياد علاوي، الذي أثارته إقالته من منصب نائب الرئيس، ومحاولة العبادي تقليم أظافره رغم أنه، كما يدعي، لم يتسبب له بأي أذى يوماً. فضلا طبعاً عن أن علاوي، مع العودة الأميركية إلى الساحة العراقية، يرى أن حظوظه قد ارتفعت في تولي رئاسة الحكومة.
أوساط نوري المالكي تقول إن بعض نواب الصدر تقدموا إلى نواب من المحسوبين على رئيس الحكومة السابق طلباً للتنسيق. سئلوا وقتها إن كانت خطوطهم تلك تأتي بعلم الصدر، فكان الجواب إنهم لا يجرؤون على القيام بأي مبادرة من دون موافقته. تضيف الأوساط نفسها أنه بعد يومين أو ثلاثة أيام، «شعر الصدر، على ما يبدو، بأن المالكي سيقطف ثمار الخطوة البرلمانية، عندها بدأ باستصدار بيانات تهاجمه».
المعلومات المتوافرة تؤكد أن الصدر نزل إلى الشارع بتنسيق كامل مع أياد علاوي الذي التقى وفدا من «كتلة الأحرار» الصدرية، عشية الاعتصام في «المنطقة الخضراء». وتضيف أنه في هذا الاجتماع «أبرمت مواثيق وعهود» بين الطرفين.

بين التشكيل والترشيق

قبلها بأيام، السبت 9 نيسان، وخلال مناقشة ما عرف بـ«وثيقة الشرف» بين الكتل السياسية العراقية، طرح العبادي موضوع ضرورة ترشيق الحكومة عبر دمج الوزارات، خلافاً للتفاهمات التي كان قد أبرمها مع الكتل في الأيام التي سبقت. خطوة تؤدي إلى تقليص عدد المناصب، ما يعني قدرة أقل على إرضاء الكتل السياسية. في اليوم التالي ــ الأحد ــ زار وفد من «اتحاد القوى» العبادي ليقدم لائحة مرشحيه إلى الحكومة الجديدة. عندما فاتحهم بموضوع الترشيق ثارت ثائرتهم وامتنعوا عن تقديم تلك اللائحة له. مع إطلالة يوم الاثنين، بدا العبادي مصراً على موقفه. دخلت الوساطات لتحاول أن تشرح له أن دمج الوزارات غير قانوني، وأنه في حالة الدمج سيكون على كل وزير تعيين وكيل وزارة لإدارتها، علماً بأنه جرى التفاهم في «وثيقة الشرف» على وضع حدّ لمنصب الوكلاء. كان رده أنه سيتولى بنفسه تعيين هؤلاء الوكلاء، ما أجّج الوضع على قاعدة أنه لا يستطيع القيام بخطوة من هذا النوع، من دون التنسيق مع الكتل.

التشكيلة الأولى: حقيقة وملابسات

قبل يومين من بدء اعتصام الصدر في «المنطقة الخضراء» في 27 آذار، جرى الاتفاق مع الثنائي الصدر ــ العبادي على إجراء تعديل وزاري على مراحل، يجري في الأولى منها تغيير 5 وزراء شيعة و3 سنة وكردي. اصطدم رئيس الحكومة بعقدة كل من إبراهيم الجعفري، وحسين الشهرستاني، وهوشيار زيباري، الذين بدوا وكأنهم خطوط حمر ممنوع المس بها. فشل هذه المحاولة كان السبب في دخول الصدر «المنطقة الخضراء»، الذي كان من نتائجه تقديم العبادي تشكيلته الحكومية الأولى (الخميس 31 آذار)، التي قيل في الكواليس إنها «أميركية المصدر»، والتي رفضتها الكتل السياسية جميعها، بحجة أنها لا تمثلها ولم تستشر فيها. تشكيلةٌ الثابت الوحيد فيها هما وزيرا الدفاع والداخلية. حجة العبادي كانت أن إبقاءهما في منصبيهما ضرورة فرضتها الحرب على «داعش». ولكن ما أشيع في الكواليس أن ذلك حصل بطلب أميركي، مع الإشارة إلى أن وزير الداخلية من «منظمة بدر» التي من المفترض أنها في موقع مواجه لواشنطن في بلاد الرافدين.

عود على بدء

بعد جلسة الجمعة الماضي (15 نيسان) التي جرت خلالها إقالة رئيس البرلمان، ونتيجة لجهود إقليمية مكثفة، زار الجبوري المالكي، فيما زار رئيس المجلس الأعلى الإسلامي عمار الحكيم ووزير النفط عادل عبد المهدي، إياد علاوي، في محاولة لإقناعهما بتهدئة الأمور. مورست ضغوط كثيفة على المالكي وعلى «اتحاد القوى»، صباح السبت، لتطيير الجلسة التي كانت مقررة في ذلك اليوم، والعمل على ترتيب وضع رئيس البرلمان المقال. جرى التفاهم على إرجاء الجلسة إلى الثلاثاء، وتظاهر الجميع بأن الأمور تذهب نحو التهدئة. جرى العمل على مخرج، بدأ بإصدار رئيس الجمهورية فؤاد معصوم قراراً بعقد جلسة عامة للبرلمان، يوم الثلاثاء، على ألا يترأسها الجبوري الذي شارك فيها مع أعضاء مكتب رئاسة المجلس في صفوف النواب. جلسة يتولى رئاستها سعدون الدليمي، وتبحث إقالة الجبوري على أن يجري التصويت عليها، بما يؤدي إلى إبقائه في منصبه.
صباح ذاك اليوم، حصل تطوران مهمان: الأول عاد الصدر من بيروت إلى النجف، وغادر علاوي بغداد إلى دبي، حيث أوعز إلى جماعته بالتصعيد عبر طرح عدنان الجنابي (من جماعة علاوي) لترؤس الجلسة. كذلك فعل الصدر والمالكي. انسحب الجميع من الجلسة وبقي المعتصمون، فسقط الحلّ الذي اقترحه معصوم.




الصدر يسحب «الأحرار» من الاعتصامات
انتقد زعيم «التيار الصدري» مقتدى الصدر، أمس، الصراع الدائر تحت قبة البرلمان وخارجه. وبينما اقترح تشكيل ائتلاف نيابي موحّد، أعلن تجميد «كتلة الاحرار» التي تمثل تياره في البرلمان، وسحب نوابها من الاعتصام الجاري.
وقال، في بيان له، إن «الصراع البرلماني الدائر تحت قبة البرلمان وخارجه، أصبح يؤثر سلباً بهيبة الثورة العراقية الشعبية الأصلية، التي انبثقت من رحم العراق ورجالاته وشعبه». وأكد ضرورة استمرار الاعتصامات الشعبية في بغداد والمحافظات، للضغط على السياسيين «ومحبي» الفساد والمحاصصة الطائفية والسياسية. وحثّ «النواب الوطنيين الأخيار» على الانسحاب من الاعتصام داخل البرلمان «وعدم انخراطهم بالمهاترات السياسية»، كاشفاً عن «تجميد كتلة الأحرار لحين انعقاد جلسة التصويت على الكابينة الوزارية الموسومة بالتكنوقراط المستقل، وباقي الدرجات الوظيفية الأخرى». وشدد على عدم تعرض المعتصمين لسفارات الدول في العراق لعدم تدخلها بمجريات الأوضاع.
(الأخبار)