في شتاء عام 2009، كانت ساحة الانتظار في سجن الجلبوع مليئة بذوي أسرى الداخل من فلسطينيي الـ48 القادمين لزيارة ذويهم من وراء الزجاج. كانت وسائل الإعلام تتحدث عن صفقة وشيكة بين «حماس» والحكومة الإسرائيلية في حينها، ليخيّم الأمل على ساحة الزيارة البائسة. كلهّم كانوا رهينة الأمل، ورهينة خيبة قد ترافق الأمل دائماً. الأمهات في ذلك المكان هنَّ المشهد بعينه.
كنَّ يتحدثن عن الصفقات بلغتهم الاساسية، التي اكتسبت تعابير ثورية مع مرور الوقت. كانت أم محمد، والدة الاسير مخلص برغال، تتحدث كيف أنها منذ 1987 لم تفوّت فرصة لزيارة ابنها حتى «لو جئت زحفاً»، في حين أنّ والدة الأسير وليد دقة المعتقل منذ 1986، وقد أتعبتها السنوات وأنهكت ملامحها، لا تكف عن السؤال في ذلك اليوم «رح يطلعوهن يُمّا؟». مرَّ أكثر من عام، تصاعد الأمل ثم خاب مجدداً، إلى حين اتمام الصفقة أمس: مخلص برغال يخرج من السجن، وفي قلبه الفرِح حسرة، لكن دقة لم يتحرر. قال إن فرحه على تحرير زملائه بمقدار حزنه على من ظلوا في الأسر. لقد تحرر خمسة أسرى فقط من أسرى فلسطينيي الـ48، ليبقى الجزء الأكبر خلف القضبان. المحرّرون يقولون إن فرحتهم لم تكتمل، والأسرى يقولون إنّ حزنهم على بقائهم في السجن لا يخفي فرحتهم بمن تحرروا. كانت مدن وقرى الأسرى المحررين تتأهب للاحتفال بقدوم الأحبّة. أعلام فلسطينية وصور زيّنت مدينة اللد لاستقبال الأسيرين محمد زيادة ومخلص برغال، اللذين اعتقلا في 1987 بتهمة إلقاء قنبلة على حافلة إسرائيلية. عند الاستماع إلى برغال، تراه يشعر بالمسؤولية. في كل جملة يدلي بها لوسائل الإعلام، يذكر من تركهم في السجن. حال سامي يونس ابن قرية عرعرة كذلك. الرجل الذي دخل السجن في منتصف عقده السادس، يتحرر وعمره اليوم يتجاوز الـ80 عاماً. يقول «وكأني تركت عائلة ورائي». اعتقل يونس في 1983 بتهمة خطف جندي إسرائيلي. أما مدينة أم الفحم فقد استقبلت الأسير محمد جبارين المعتقل من 1988، إضافة إلى استقبال قرية أبطن الأسير المحرر علي عمرية المعتقل بدوره منذ 1988. وقد قرّر عمرية، قبل أن يزور بيت أهله، التوجه لزيارة منزل الأسير سمير سرساوي ابن القرية الذي لم تشمله الصفقة. جميع الأسرى يتحفّظون قبل الحديث. يؤكدون أنّهم تركوا أشقاء خلف القضبان، يقضون أحكاماً طويلة، ولعل من أبرزهم كريم يونس، عميد الأسرى الفلسطينيين والعرب، الذي يتمم ثلاثة عقود خلف القضبان. يونس، الذي أصدر بياناً من سجنه هنّأ فيه الأسرى المحررين، شدّد على الانجاز الوطني، لكنّه أيضاً لم يخف مرارته القاتلة لأنّ عملية التبادل كانت «فئوية»، واستثنت كثيرين من أسرى حركة «فتح»، رغم أنهم بحسب بيانه 60 في المئة من الأسرى الفلسطينيين، ولم يحرر سوى 43 منهم في العملية الحالية. قصة كريم يونس هي واحدة من القصص القاسية حول أسرى الداخل حين تتعنت إسرائيل دوماً للحؤول دون تحريرهم، بحجة أنهم «شأن داخلي» لكونهم يحملون الجنسية الإسرائيلية. كان يونس مشمولاً في صفقة التبادل التي تمّت بين تل أبيب والقيادة العامة عام 1985، لكنه أنزل من الحافلة في اللحظة الأخيرة، ليعيش ضياع الأمل عقوداً ولتنتهي الصفقة الأخيرة، وليبقى هو خلف الأسوار تماماً مثل ماهر يونس وأحمد أبو جابر ورشدي وإبراهيم أبو مخ وسمير سرساوي وغيرهم. صور الأسرى تختلف عن الصور التي التقطت لهم عند اعتقالهم. السنوات أنهكت الألوان، لكنَّ مشهد التحرير ظل قائماً. والدته لا تزال تحمل صورته. في كل مرة تمنح المقابلات، وتحكي تارة عن الأمل من الصفقات، وتارةً تحكي عن الخيبات. قالت مرة إنّها تعد الأيام لقدومه، لكنَّ الايام تمضي، وتجاعيد وجهها الظاهرة من مرة إلى مرة تنبئ بالحقيقة.
عملية التبادل بمجملها تطرق باب إحدى القضايا الشائكة لدى الفلسطينيين. وقد جرت حين كان مئات الأسرى يضربون عن الطعام نتيجة ازدياد أوضاعهم سوءاً. هذا المشهد المؤلم اختلط أيضاً بفرحة العملية. لقد تداخل الإضراب بالتحرير أيضاً، إضافة إلى أنَّها عملية التبادل الاولى التي تأتي والمشهد الفلسطيني مشظّى وتنهكه الانقسامات رغم الفرحة. لقد توحّد المشهد أمس، وسط أمل أن تعود الحركة الأسيرة لتوحيد المشهد من جديد. ورغم الفرح المخلوط بالألم، تعالت أصوات شبابية تضامنية مع الأسرى في إضرابهم لتجعل من القضية المنسية حاضرة في الحياة اليومية: مجموعة شباب من فلسطينيي الـ48 رفعت شعار «جائعون للحرية»، للتضامن مع الأسرى الفلسطينيين. ففي المكان الذي يستقطب الساهرين في حيفا، فرض هؤلاء مقولة أنّ قضية الأسرى جزء منّا، واعتصموا منذ بداية إضراب الأسرى وعدد منهم أضرب عن الطعام تضامناً. المبادرة الموفقة جرّت من ورائها الكثير من فعاليات التضامن، فأعلنت «لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية» بدورها يوم إضراب عن الطعام. لكن يوم أمس، أعلن الشباب تعليق إضرابهم بعد أنباء عن تلبية مطالب الأسرى.