بينما كان الأسرى الفلسطينيون يعانقون عائلاتهم في قطاع غزة، كانت قناة cnn مشغولة في إعداد تقرير يضيء على «معاناة» أُسَرٍ إسرائيلية من «الجرائم الفظيعة التي ارتكبها إرهابيون فلسطينيون». وفيما كان أكثر من مئتَي ألف شخص يحتشدون للقاء الأسرى المحررين، كانت مذيعة المحطة الأميركية نفسها، قلقة بشأن «اللون الشاحب الذي ساد وجه جلعاد شاليط في إطلالته التلفزيونية الأولى».
أمس، بدا واضحاً أنّ الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط كان بوصلة الإعلام الغربي في تغطية صفقة تبادل الأسرى بين «حركة حماس» والاحتلال. لقد كان وحده نجم الشاشات والصحف الأجنبية. أما الأسرى الفلسطينيون الذين أطلق سراحهم أمس وبلغ عددهم 477 (من أصل 1027 تشملهم الصفقة) فكانوا مجرّد أرقام، بلا أسماء، ولا وجوه. هكذا استمعنا وقرأنا قصة الصفقة كاملةً لكن من وجهة النظر الأخرى، تلك التي صاغتها إسرائيل وعمّمتها على العالم: «إطلاق سراح جندي إسرائيلي بريء أسرته حركة «حماس» الإرهابية من دون أي مبرّر». هنا، لا مكان للقصة الأخرى، تلك التي تروي حكاية أكثر من خمسة آلاف أسير فلسطيني معتقلين بسبب دفاعهم عن أرضهم المحتلة. وحدها «بي. بي. سي» البريطانية حاولت الإضاءة على هذا الجانب وإن من خلال تقارير موجزة جداً. هكذا قرأنا على أسفل شاشتها معلومات عن تاريخ عمليات الاعتقال في الأراضي المحتلة: «أكثر من من 700 ألف أسير فلسطيني منذ العام 1967»، «5000 معتقل في السجون الإسرائيلية حالياً»... أما مراسل cnn في غزة ماثيو شانس، فعمد إلى تذكير المشاهدين مراراً بأنّ «بعض هؤلاء الأسرى (الفلسطينيين) ارتكب جرائم قتل، وعمليات إرهابية خطيرة روّعت إسرائيل». وهو على ما يبدو قد أعحب زميلته في الاستديو التي انتبهت فجأة إلى أن «هؤلاء المحررين هم إرهابيون في جهة من الحدود، وأبطال في الجهة الأخرى، إنها مفارقة لافتة» كرّرت أكثر من أربع مرات. أما الجرائم التي ترتكبها إسرائيل منذ أكثر من ستة عقود، فلم تلفت نظر المذيعة أو زميلها.
ولعل العبارة الأكثر تكراراً في تغطية الصفقة في الإعلام الغربي كانت... «إسرائيلي واحد مقابل ألف فلسطيني». وهي العبارة نفسها التي ركّزت عليها «سي. بي. أس» الأميركية في تغطية تمحورت في أغلب جوانبها حول حياة جلعاد شاليط، ومقابلته بعد خروجه من الاعتقال.
غاب إذاً الأسرى، وغابت قصصهم، وعمليات تعذيبهم... حضر فقط شاليط «البطل»، ليخبرنا في مقابلة على «التلفزيون المصري» أجرتها معه شهيرة أمين، عن أمنيته بإطلاق سراح كل المعتقلين الفلسطينيين، وإحلال السلام! أمين التي بدت «مدهوشة» بالجندي الإسرائيلي، ومبتهجة بمحاورته، أطلّت لاحقاً على «سي. أن. أن» لتصف تلك المقابلة بـ«العاطفية» وتطمئن المشاهدين «أظن أن شاليط سيكون بخير».
لكن الدهشة لم تكن سمة شهيرة أمين فقط، بل عبّرت الصحف الأميركية عن «افتتانها» بشاليط من دون مواربة أو تمويه. «نيويورك تايمز» واكبت الحدث في الأيام الماضية وصولاً إلى يوم أمس، بزخم كبير. وطبعاً كان عرّاب هذه التغطية مراسل الصحيفة في القدس المحتلة إيثان برونر الذي انطلق من عملية إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي لينتقل إلى الإشادة بالمجتمع الإسرائيلي، و«بإنسانيّته والشعور بالمسوؤلية المتبادل بين المواطنين والجيش». وعلى هذا المنوال، استمرّت تغطية الصحيفة الشهيرة لصفقة التبادل مركّزة على أدق التفاصيل المتعلقة بشاليط وعائلته، ومسقطةً من حساباتها الأسرى الفلسطينيين، ومعاناتهم. على صفحات «واشنطن بوست» لم تبد الصورة مغايرة. كل عناوين الصحيفة تمحورت حول «عودة جلعاد شاليط». ذكّرتنا الجريدة نفسها بعملية اختطاف الجندي الشاب (25 سنة)، مع التفاصيل الدقيقة لإطلاق سراحه. وهنا أيضاً غاب الأسرى المحررون. 477 فلسطينياً ذكروا في عبارة واحدة من دون أسماء، أو صور، أو حتى «التّهم» التي اعتقلوا على أساسها.
الجندي الإسرائيلي نفسه، «فتن» أيضاً الصحافة الفرنسية: «جلعاد شاليط حُرِّر» عنونت «لو فيغارو» لتغيّر عنوانها لاحقاً إلى «شاليط في صحة جيدة». طمأنت إذاً الصحيفة الفرنسية قرّاءها إلى صحة الجندي الإسرائيلي، لتعود وتذكر خبر الأسرى الفلسطينيين في تغطية هامشية، إلى جانب تحقيق طويل عن «عائلات الضحايا الإسرائيليين» المعترضين على صفقة التبادل. وقد يكون هذا المقال من التقارير الصحافية النادرة التي ذكر فيها اسم فلسطينيتَين سيطلق سراحهما: أحلام التميمي التي لا يتردّد المقال في وصفها بـ«الوحش»، وآمنة منى التي يحاول الكاتب تجريدها من إنسانيتها من خلال التذكير بالعملية التي ارتكبتها وأدّت إلى قتل شاب إسرائيلي، بعدما استدرجته الأسيرة المحررة من تل أبيب إلى رام الله. أما صحيفة «لوموند»، فركّزت هي الأخرى على مواكبة إطلاق سراح جلعاد شاليط، مرفقة مقالاتها بشريط يسجّل الصور الأولى له بعد خروجه من الاعتقال. واعتمدت المطبوعة الأشهر في فرنسا على أسلوب إنساني لتصوّر لنا لقاء شاليط بعائلته. كذلك فعلت صحيفة «ليبيراسيون» التي ركّزت على لقاء الجندي بأسرته، طارحةً سؤالاً كررته أكثر من صحيفة غربية عن إمكان تشكيل هذه الصفقة، نقطة انطلاق لمعاودة مفاوضات السلام.
ومن بين وسائل الإعلام الفرنسية والأميركية، كانت التغطية البريطانية أيضاً منحازة، وإن حاولت «أنسنة» الأسرى الفلسطينيين أكثر مما فعلت المطبوعات الأخرى. هكذا قرأنا في الـ«إندبندنت» كيف تحوّل «شاليط إلى ابن كل الإسرائيليين» وكيف تزيّنت الشوارع بلافتات كتب عليها «أهلاً بعودتك». أما الاسرى الفلسطينيون فأشارت إليهم الصحيفة بصفتهم «بضع مئات من أصل ألف فلسطيني شملتهم الصفقة».



3 محطات

«غارديان»

كتبت مقالة ذكرت فيها أسماء «الأسرى الفلسطينيين الأكثر إثارة للجدل» أي عبد العزيز صالحة، ويحيى السنوار، ووليد انجاص، وإبراهيم شماسنة... مع نبذة عن حياتهم و«الجرائم التي أدينوا بها»...

«اومانيته»

عنونت الصحيفة تغطيتها بـ«جلعاد شاليط إلى الحرية... ماذا عن صلاح حموري؟» وذكرت الصحيفة بالجنسية الفرنسية التي يحملها شاليط تماماً كحموري المعتقل لدى الاحتلال الإسرائيلي

«هافنغتون بوست»

فيما توقّع كثيرون تغطية معتدلة من الموقع الشهير، جاءت مواكبته للصفقة منحازة لإسرائيل وحملت عنوان «انتهى الكابوس»




الحرية فلسطينية على الأثير العربي

لا شكّ في أن «التلفزيون المصري» (راجع المقالين المقابلين) كان نجم الشاشات أمس، إلا أن ذلك لم يمنع الفضائيّتَين الأشهر في العالم العربي من محاولة تقديم تغطية متكاملة للصفقة. «الجزيرة» بدأت مواكبتها للحدث منذ إعلان مدير المكتب السياسي لـ«حركة حماس» خالد مشعل الاتفاق على عملية التبادل مع الإسرائيليين، ووزّعت مراسليها أمس في مختلف أنحاء فلسطين، وفي مصر. كذلك قدّمت تغطية مستمرة طيلة اليوم، فنقلت عن الفضائية المصرية وصول شاليط إلى مصر، ثمّ وصول الأسرى الفلسطينيين بالحافلات، وأجرى مراسلوها مقابلات مع أهالي الأسرى المحررين. كذلك عرضت الفضائية تقارير خاصة عن بعض المحررين الفلسطينيين، مسلّطة الضوء على الجانب الإنساني من قصصهم. وكانت من أوائل من أجرى مقابلات مع عدد من المحررين مثل الأسير حسن سلمة. هنا سقط رداء «الإرهاب» الذي حاول الإعلام الغربي إلباسه للأسرى المحررين. استمعنا إلى سلمة الذي قضى 30 عاماً في الأسر، يتحدّث عن معاناته في الاعتقال، وعن حزنه «لأننا تركنا إخوة لنا في الأسر». من جهتها خصصت «العربية» حيّزاً كبيراً من هوائها لمواكبة الحدث. هكذا كانت المحطة الأولى التي أذاعت خبر إطلاق الاحتلال الإسرائيلي للنار على أهالي الأسرى عند معبر بيتونيا. وواكبت الفضائية السعودية توجّه بعض المحررين إلى مقر الرئاسة في رام الله لمقابلة الرئيس محمود عباس الذي استقبلهم.
وإن كانت التغطية العربية المكثفة متوقعة، فإن متابعة المحطات اللبنانية للحدث بدت متفاوتة: «المنار» وnbn بدتا الأكثر اهتماماً، فنقلتا مباشرة وصول الأسرى الفلسطينيين إلى غزة، ثم الاحتفال الذي أقيم للمناسبة. أما otv فكانت تبثّ أخباراً عاجلة من دون أن تعمل على مواكبة الحدث بالصورة. وكانت لافتة تغطية «المؤسسة اللبنانية للإرسال» التي واكبت كل التطوّرات بالصورة، ومع مراسلتها في فلسطين. كذلك فعلت «الجديد» التي استقبلت مراسلها الأسير المحرر أنور ياسين ليتحدّث في المناسبة. هكذا بقيت mtv و«أخبار المستقبل» وحدهما خارج الحدث، فأكملتا برمجتيهما المعتادتين.

لقد تم تعديل هذا النص عم نسخته الاصلية بتاريخ 19-10-2011