لم يكن المرض يبدو على سعيد وهو يسرد مأساته ممدداً على سريره. بدا متحمساً ومؤمناً بقضيته، عارضاً لحقيقة الأزمة، مفنّداً أسبابها وتاريخها. كيف لا وهو ينتمي إلى جيل عاصر ثلاثة عقود من الاحتجاجات، في الثمانينيات والتسعينيات والانتفاضة الحالية. يعود بالذاكرة إلى الاحتجاجات السابقة ويقول إن انتفاضة البحرين لم تكن صدى للثورات العربية، بل هي جزء من معاناة تاريخية لأبناء البحرين. ويتحدث عن التجربة الأخيرة، مشيراً إلى أن كل شيء تغيّر بعد إعلان وليّ العهد أنه منفتح على الحوار على أساس النقاط السبع التي طرحتها المعارضة.في هذه اللحظة أحسّ الشباب بالنصر. كان هناك تصفيق وتهليل عند دوار اللؤلؤة. وعاد الكثير من الشباب إلى منازلهم، «لكنهم صحوا فجر ذاك اليوم المشؤوم على مجزرة» (الفجر الذي هاجمت فيه القوات الأمنية الدوار وأخلته). ويتساءل «هل كانت خدعة؟ هل أرادوا بثّ الطمأنينة قبل أن يعصفونا بإجرامهم؟».

وبعدها بدأت الحملة الأمنية الشاملة وحُظرت التجمعات.
ويروي سعيد حادثة مؤلمة جرت أمامه في أحد أيام الاحتجاجات. كانت هناك أمٌ تبحث عن صديق ابنها «تصرخ بيننا وتقول هل رأيتم لي عبدو؟»، فأجابها أحدهم «أتقصدين ذاك الشاب الذي حمل الشهيد جواد إلى المستشفى»، وجواد هو ابنها. ويقول سعيد «ذهبنا نبحث عن عبدو، فوجدناه هو الآخر قد مات جرّاء إصابته برصاصة في بطنه بعدما أسعف صديقه».
أولى إصابات سعيد كانت رصاصة مطاطية في كتفه. حصل ذلك خلال الاحتفال بمولد أحد الأولياء. كان الناس يسيرون في الشارع احتفالاً بالمناسبة، فدخلت الشرطة إلى المنطقة لتفريقهم، مستخدمةً الرصاص المطاطي والقنابل الغازية، نُقل على أثرها إلى المستشفى للعلاج بمركز صحي، كانت قوات «درع الجزيرة» تحاصره. يقول سعيد إنه كان يجلس على كرسي نقّال حين أتى إليه عنصر من القوات وسأله عن عمله، فأجابه صديق بأنه معوق، لكن ردّ فعل الجندي كان قاسياً وضربه على رأسه.
عاد إلى المنزل وهو ينزف، فاستدعوا له طبيباً مصرياً لمعالجة الجرح. لكن هذا الطبيب ما لبث أن فُصل من عمله، بعدما فُضح أمر إسعافه للمتظاهرين. تعب سعيد، فجسمه الضعيف لا يحتمل كل هذا. فأُسعف إلى مستشفى السلمانية الذي تحوّل إلى مستشفى عسكري. أجرى له الطبيب فحوصاً فتبيّن أنه مصاب بخلل في الدم، وحالته تستوجب الدخول إلى المستشفى. رفض بداية بسبب خوفه مما شاهده حوله من عناصر أمنية ملثّمة، لكنه عاد وقبل.
مكث يومين، وفي فجر اليوم الثالث دخل عليه جندي بلباس قوة الدفاع. أيقظه وطلب منه أن يقف. هنا بدأ صوت سعيد يخفت شيئاً فشيئاً وهو يحدثنا، وتحول ذاك الشاب المتحمّس إلى شخص آخر، يأخذ بين الكلمة والكلمة نفساً. يتحدث بروية ويعصر يديه. يتابع قصته ويقول إن الأمني سأله إن كان شارك في الأحداث، لكن سعيد نفى، فدفعه بسلاحه، ووضع المسدس في رأسه، وسأله ألست خائفاً، وصار يصرخ ويهين «الخوف دفعني لأتبوّل في ثيابي» يقول سعيد. فتركه عندها الشرطي وذهب وهو يسخر منه.
انتقل الأمني إلى مصاب آخر في المستشفى. كان فتى لا يتجاوز 17 عاماً من العمر مصاباً بالسكّري. سأله إن شارك في الأحداث، ثم جرّه إلى خارج الغرفة وضربه، دخل بعدها الشاب في غيبوبة... ومات. تعب سعيد في المستشفى لم يعد يحتمل. كان أشبه بمعسكر، ولم يكن فيه أكل أو دواء كاف.
خرج سعيد لكن مرضه لم يمنعه من مواصلة الاحتجاج. يقول إن الجميع أُصيبوا بحالة هستيرية ولم يعودوا يخشون الموت. كانوا يخرجون إلى الشارع ويرمون بأنفسهم في الأماكن الخطرة. بعد فترة أصبحت الحكومة تتساهل مع المسيرات، وفي إحدى المرات خرج سعيد مع رفاقه في مسيرة على كرسيه النقّال يهتف ضدّ النظام، فتصدّت لهم الشرطة لتفريقهم، فأُصيب برصاص حي في رجله اليسرى وظهره. عالجوه في البيت، بسبب عسكرة المراكز الصحية. أخذ يصرخ «لماذا لم أمت»، وأمه تلطمه على فمه لتسكته «ألا يكفيني أنك مريض، أتريد أن تقتلني؟». يقول سعيد كان الجميع يصرخ «إنها كربلاء... فزنا ورب الكعبة».
«إنها كربلاء» هي الصرخة التي ردّدها كل ضحايا القمع في المملكة. ردّدها أيضاً طاهر، وهو يروي تجربته. طاهر، وهو ابن الناشط السياسي إبراهيم المدهون، تعرّض هو وإخوته الثلاثة للاعتقال والتعذيب لأشهر، وحُكم على اثنين منهم بالسجن 15 عشر عاماً.
كان الوالد ينقل صوت المعارضة إلى وسائل الإعلام الخارجية خلال الاحتجاجات. ووقت الهجوم على دوار اللؤلؤة، كان في رحلة عمل إلى بيروت. الغرض من الحملة الأمنية على العائلة كان الضغط عليه، لكنه ظل مناضلاً في منفاه الإجباري. يصف طاهر (17 عاماً) معاناته منذ أن اقتحمت القوات الأمنية البحرينية منزله وقادته مع إخوته الثلاثة حامد (25 عاماً) وخليل (23 عاماً)، إضافة إلى القاصر جهاد (15 عاماً)، إلى السجن واعتدت بالضرب والشتائم على أمه وزوجة أبيه، قائلاً «جيش بأكمله يقتحم المنزل، أسلحة مستنفرة للهجوم على شباب عزّل». ويضيف «عصبوا عيني بإحكام»، وانهالوا عليه ضرباً بعدما وجدوا هاتفاً له يحمل رسالة تهدّد أعمال الحكومة. ضربوه حتى سالت دماؤه، ويداه مقيّدتان إلى الخلف. يضيف «كان على يميني أحد المرتزقة سعودي اللهجة، سألني هل ذهبت إلى الدوار؟ فأجبته: نعم . فلكمني وقال: لماذا ذهبت إلى الدوار؟ للمتعة أم ماذا؟ ولكمني».
ويتحدث طاهر عن التحقيقات المتتالية من قبل مجنّسين. يقول «جاء المحقق الأردني وسألني، أقُلتَ بحرين حرة حرة يا مجنّس اطلع برّة... أجبته نعم. فضربني بالهوز»، قبل أن يسألوه عن اختطاف شرطي في محاوله لتدبير تهمة له ولإخوته ولأبناء خالته. أسبوعان من التعذيب المتواصل، بالكهرباء والضرب بالهوز والهراوات، ظل واقفاً خلالها مغمض العينين لأربعة أيام ومُنع عنه الأكل ليومين. يقول طاهر «كنت هائماً في ثلاث ظلمات، ظلمة العين المعصوبة، وظلمة ألم لَمْ أره من قبل، وظلمة شعب نشد الحرية»، ولم تدر أمه إن كان ميتاً أو حياً إلا بعد شهرين، لتبدأ بعدها المحاكمة.