«تعليم فقراء الطوائف». كان هذا هدف إنشاء المدارس المجانية في خمسينيات القرن الماضي. المدارس تأسست لتؤدي وظيفة تعليمية في مرحلة كانت لا تزال فيها الدولة عاجزة عن تعليم كل المناطق اللبنانية، ولا سيما قرى الأطراف. هل انتفت هذه الوظيفة اليوم؟ «الحاجة إلى المدرسة المجانية أكثر من ضرورية، والظروف الاقتصادية الخانقة التي أسست لهذا التعليم لا تزال ماثلة إلى اليوم»، يجزم الأمين العام للمدارس الكاثوليكية الأب مروان تابت. وإذا كانت الدولة قد جهدت على مدى عقود لاستيعاب أبناء الفقراء، لم توفق، بحسب الأب تابت، إلى ذلك في وقت «نجحت فيه الجمعيات والمؤسسات التربوية الخاصة والأفراد في توفير فرص التعلُّم للمعوزين في أكثر القرى نأياً وفي قلب بيروت».
أما ما يتسلح به الأمين العام، فهو الوفر الذي تعود به هذه المدارس على الدولة. ويشرح قائلاً إن «منحة الأخيرة للتعليم الابتدائي المجاني، التي ينص عليها قانون تنظيم الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة الصادر في عام 1956 هي 100% الحد الأدنى الأجور، وتساوي اليوم 750 ألف ليرة لبنانية مقابل 750 ألفاً يدفعها الأهالي، بينما تبلغ كلفة التلميذ على الدولة في التعليم الابتدائي الرسمي نحو مليونين و500 ألف ليرة».
وبحسب مصلحة التعليم الخاص في وزارة التربية، تشمل القيمة التقديرية لمنحة الدولة المرتقبة للعام الدراسي 2011 ـــــ 2012: (107697 (عدد التلامذة)* 800000 (المساهمة) = 86 ملياراً و157 مليوناً و600 ألف ليرة لبنانية. في المقابل، تصل كلفة هؤلاء في التعليم الرسمي:107697*2500000 = 269 مليار و242 مليون و500 ألف ليرة لبنانية، أي أنّ الوفر يوازي:269242500000 - 86157600000 = 183 مليار و84 مليون و900 ألف ليرة لبنانية.
يُقر مصدر تربوي ونقابي بارتفاع كلفة التلميذ في المدرسة الرسمية، لكن تستوقفه مثل هذه المقاربة فيصفها بالهروب إلى الأمام؛ لأن عدد تلامذة الصف في المدرسة الرسمية قياساً للأستاذ أقل من عدد التلامذة في صف المدرسة المجانية، ما يعني أن الحديث عن هذا الوفر ليس دقيقاً. ثم إنّ مسؤولية الدولة، برأيه، هي عدم رفع يدها عن التعليم الرسمي وتوفير إلزاميته ومجانيته من دون قياس ذلك بالمال.
ثم إنّه لو رصدت الدولة، بحسب المصدر، الـ86 ملياراً (المنحة) للتعليم الرسمي لجهّزت خلال 5 سنوات متتالية أبنية مدرسية تحقق الانصهار الوطني.
يستغرب الأب تابت الحديث عن أن المدارس المجانية لا تقدم تربية وطنية وإذا كان ذلك دقيقاً، فإنّ الأمر ينسحب أيضاً على المدارس الخاصة غير المجانية. و«مَن قال [يسأل الأب تابت] إنّ التعليم الرسمي وطني؟ وهل تستطيع وزارة التربية أن تقدم بياناً موثقاً يفيد بأنّه في مكان ما في مدارسها يعلّم التاريخ والتربية المدنية بعيداً عن المذهبية والطائفية؟».
وإذا كان الأمين العام يؤازر تحسين أوضاع المدرسة الرسمية، ينتقد «التسييس في توظيف المعلمين الرسميين من دون أن ينسى أولئك الذين يقبضون من الدولة ولا يعرفون أين مدارسهم!». ويستطرد: «موازنة التعليم الرسمي هي ثاني أكبر موازنة بعد الدفاع، أين تذهب كل هذه الأموال؟ وهل تستطيع المدرسة الرسمية أن تستوعب تلامذة المدرسة المجانية وعددهم نحو 107 آلاف؟ وماذا عن 5000 معلم يدرّسون في هذه المدارس؟». هنا يتدخل المصدر فيسأل: «ما المبرر الدائم للهجوم على المدرسة الرسمية لمصلحة التعليم الخاص، فيما أكبر باب من أبواب الإنفاق للبنانيين هو الأقساط المدرسية التي تتجاوز ملياراً و200 مليون ليرة لبنانية؟».
يصر الأب تابت منذ توليه الأمانة العامة للمدارس الكاثوليكية في عام 2003 على ربح «معركة المدارس المجانية». يبدو الرجل مقتنعاً بأهمية تحديث هذه المدارس وفقاً لأنظمة تدفع عنها الشبهة والتشكيك. «فالمدارس المجانية لا تضرب جميعها عرض الحائط بحقوق المعلمين»، يقول. ويكشف الرجل عن مشروع قانون رفعه، أخيراً، وزير التربية حسان دياب إلى مجلس الوزراء لربط منحة المدارس المجانية بأي زيادة تطرأ على رواتب المعلمين، وعدم حصرها فقط بالحد الأدنى للأجور.
«المجلس أمام امتحان جديد»، بحسب الأب تابت، «وإذا لم يقر المشروع فستوضع المدرسة المجانية في عنق الزجاجة».
مصلحة التعليم الخاص في الوزارة مقتنعة على الأقل بجدوى هذه المدارس، فيطالب رئيسها عماد الأشقر بتعميم التجربة مع ضوابط، لافتاً إلى أنّ التعليم المجاني يمثل 13.5% من التعليم في لبنان، والدولة غير قادرة على استيعاب تلامذته ومعلميه. يعترف الرجل بالتعقيدات التي يمر بها ملف الحصول على المنحة، مشيراً إلى أن تأخيرها سببه مالي «وأشك في أن هناك نية لدى الدولة بإقفال المدرسة المجانية». لا ينكر الأشقر أنّه في الماضي طرحت أسماء وهمية لمدارس مجانية، لكن اليوم ضبط الأمر بصورة كبيرة، وعدد المدارس التي يملكها أفراد لا يتجاوز 35 مدرسة. وعن «البرطيل» لتزوير أعداد المستفيدين، يعلّق: «إذا كان موظفو المصلحة يرتشون، فماذا عن التفتيش التربوي والمالي الذي يدقق وراءنا؟ ومع ذلك، أقول لمديري المدارس إنّهم ليسوا ملزمين بتقديم فنجان قهوة لموظفينا».
قد يوافق المراقبون التربويون على أنّ هناك نوعين من المدارس المجانية: مدارس تملكها مؤسسات وجمعيات دينية إسلامية ومسيحية ويوفر بعضها مستوى مقبولاً من التعليم ومدارس أخرى يملكها أفراد تفتقر إلى أبسط مقومات البيئة المدرسية. لكن المفارقة أنّ مراجعة دليل المدارس للتعليم العام (2009 ـــــ 2010 ) الصادر عن المركز التربوي للبحوث الإنماء تظهر أن هناك نحو 160 مدرسة إفرادية من أصل 378 مدرسة مجانية.
وهنا، يرى المصدر أنّ المدرسة المجانية نشأت بهدف سد حاجات مؤقتة لم تكن وزارة التربية قادرة على تلبيتها في حينه، لتتحول مع الوقت إلى مصدر ثراء للكثيرين، ومن بينهم مسؤولون في الدولة. أما الكسب المادي فيأتي، كما يقول، من عدم دفع الرواتب الكاملة للمعلمين (8 أشهر أو 9 أشهر على الأكثر) وعدم إدخالهم في صندوق التعويضات، التلاعب بلوائح التلامذة التي تُقبض على أساسها المنحة بالتواطؤ مع موظفي مصلحة التعليم الخاص (ويقصد الجهاز الرسمي للتوجيه والمراقبة الذي يدقق في عدد المستفيدين من المنحة)، وذلك لتغطية هذا التلاعب وغياب الشروط التربوية والصحية والتجهيزات في معظم هذه المدارس. أما إنتاجية التعليم فتعكسها دراسات الطلاب في الجامعات؛ «إذ لا يصل من تلامذة المدارس المجانية إلى المرحلة الجامعية سوى نسبة شبه معدومة بسبب تدني مستوى التعليم».
أما اللافت، فالتداول بشأن صفقات لبيع رخص المدارس لمؤسسات ومتمولين تتجاوز مئات آلاف الدولارات لمنحة مدرسة واحدة، وكل رخصة مرتبطة بموقعها الجغرافي. ويتندر أصحاب المدارس المجانية على ما جرى من صفقات بينهم وبين جهاز الرقابة للتلاعب بالعدد والاستفادة من المنحة، فضلاً عن التزوير المتمثل بنقل أسماء بعض تلامذة الروضة إلى المرحلة الابتدائية. ومع ذلك، لم تقفل، بحسب المصدر، أي مدرسة مجانية مرتكبة رغم التقارير التي تثبت ارتكاباتها.
لكن لأمين العلاقات العربية والدولية في نقابة المعلمين جمال الحسامي رأي مختلف؛ إذ يؤكد أنّ هناك إشرافاً تربوياً على 90% من المدارس المجانية التي تتوافر فيها شروط المدارس الخاصة غير المجانية. ويشدد على أنّ نقابة المعلمين لن تسكت عن محاربة المدرسة المجانية، وهي تتماهى مع اتحاد المؤسسات التربوية الخاصة في المطالبة بدفع المساهمات المالية المتأخرة من عام 2007 ــ 2008 وما بعد، أقله بنسبة الـ50% التي تستحق حكماً بموجب المرسوم 2359 في النصف الأول من نيسان من كل سنة. وفي البعد القانوني، يدعو الحسامي إلى تعديل المرسوم لجهة وضع مهلة زمنية مدتها 6 أشهر في حد أقصى لإنهاء المراحل كافة التي تمر بها معاملة المدرسة المجانية قبل استيفاء حقوقها.
أما ما يستوقف الرجل، فهو المستندات التي تضطر المدارس المجانية إلى إعدادها كل سنة للحصول على المنحة، على أن تكون موقعة ومختومة من مدير المدرسة والمختار، وهي: العدد الإجمالي للتلامذة ومجموع الرسوم السنوية المفروضة، مستندات المعلمين: إخراج قيد أصلي، سجل عدلي أصلي لا يعود تاريخه لأكثر من 3 أشهر، صورة مصدقة عن الشهادة، التوقيع المعتمد (نسختان)، وثائق الانتساب (تسلم واحدة للوزارة موقّعة)، أسماء التلامذة (نسختان) فيها الاسم الكامل، الجنسية، رقم السجل، رقم الهوية المتسلسل، محل الولادة، رقم التلميذ في سجل القيد العام، رسوم طبابة/ تدفئة/ رسم النقل بالسيارة، تاريخ مباشرة التلميذ بالدراسة، عنوان وليّ الأمر (ملاحظات لجنتي التدقيق)، أسماء المعلمين معلومات عن أوضاع المدارس الخاصة، بيان صندوق التعويضات، براءة ذمة الضمان، إفادة بعدم الاستفادة من منحة من وزارة الشؤون الاجتماعية، لائحة بالكتب، لائحة بالعطل، مستندات المدرسة القانونية/ مرسوم ـــــ قرار ـــــ موافقة استثنائية ـــــ طلب زيادة عدد التلامذة، قرار تعيين المدير/ مستندات المدير (إخراج قيد، سجل عدلي، شهادة مصدقة)، كيف يقبض المعلمون: شيكات، نقداً، الشيك مسحوب على بنك، تصريح الضريبة، واتفاقية الطبيب.
إلى ذلك، يدعو الحسامي إلى إصدار مشروع قانون تمديد العمل بأحكام القانون 489 حتى سنة 2012 كي يتسنى للمدارس المجانية استعادة الـ25% من مساهماتها التي حُرمَتها بسبب تعاقدها مع أشخاص من غير حَمَلة الإجازات الجامعية، وذلك عملاً بالقانون 344/ 2001 الذي ينص في مادته الخامسة على أنه «لا يجوز أن يدخل ملاك التعليم كما لا يجوز التعاقد في جميع مراحل التعليم إلا لحملة الإجازات وما فوق ما عدا طلاب دور المعلمين الذين التحقوا قبل صدور هذا القانون».