العودة إلى زمن مبارك، هذا ما يمكن أن يراه أيّ متفرج من بعيد، لكن الشوارع في القاهرة تغيرت، ولم تعد تحت الحصار القديم، رغم أن العقل القديم استعاد نشاطه ويخطط لحصار أمني وإعلامي. لماذا الحصار؟ مبارك كان يسعى الى الخلود؟ لماذا يسعى مجلس الجنرالات الى الحصار ويتصرف كما لو كان دائماً، رغم أنه عابر في لحظة عابرة؟الى أين؟ السؤال ينطبق على العسكر وعلى الثورة، لم تعد المواجهة بين الثورة والعسكر في الشوارع، بل انتقلت الى كل مكان، في البيوت، حيث عاد الإعلام الى التضليل والتحريض على الثورة، وعاد استخدام سلاح البيروقراطية للضرب تحت الحزام لإغلاق الفضائيات، وترويع الإعلام ليدخل في الحظيرة.
إدارة المرحلة الانتقالية في مصر مرتبكة. لا تعرف ماذا تريد. قوات الجيش تركت الشباب يهدمون سور السفارة. الارتباك تحول في المساء الى معركة، الجنود أنفسهم تقريباً أعلنوا الحرب على ثوار الشوارع، وطاردوهم بكل الوسائل، التي أعادت الى الذاكرة ليلة ٢٨ كانون الثاني.
الدولة الأمنية نفسها، بعقلها التسلطي، لم تتغير. «الشعب» هو الذي تغير، انفلت، ذاق طعم كسر الخوف، ولم يعد يهمه شيء، بل ويتحدى: «خافي مننا يا حكومة». «شعب» يريد صنع سياسة خارجية، يفرضها على إدارة راكدة للمرحلة الانتقالية، ركود أعاد «العجلة» الى دورانها القديم، قهر في الداخل، وضعف في الخارج، وبينهما خطابات سلطوية مستوحاة من مخازن الدكتاتور.
هل يريدون إعادة إنتاج الدكتاتور الذي يرقد على سريره ببيجامته الزرقاء في القفص؟ الإجابة بالنفي، كما أن الإجابات الأخرى تنفي نفسها، هم لا يريدون جمهورية ديموقراطية بدون تحكم عن بعد. كل الإجابات بالنفي، حتى في ما يتعلق بإسرائيل، هل يريدون إعادة إنتاج العلاقة مع إسرائيل بنفس الطريقة؟
إسرائيل جرح في النرجسية المصرية، الهجوم المتكرر على السفارة رمزي لردم هوة الكرامة المهدورة، ليس إعلاناً للحرب ضد إسرائيل، لكنه إعلان باستمرار الثورة لبناء مصر جديدة.
مصر لا تقوى فيها الدولة على شعبها وتضعف أمام المعتدين على حدودها. الشباب أمام السفارة لا يطالبون بالحرب، لكن بالقوة. مبارك لم يكن حكيماً، لكنه موظف صغير لديه مصالح أصغر، تصور أن الضعف حكمة والعجز سياسة لا يفهمها الشعب. عندما بنى محافظ الجيزة سوراً لحماية السفارة، لم يكن ذلك غير إشارة الى عودة «مبارك» الى الظهور في المسافة بين القاهرة وتل أبيب.
لماذا لم تتخذ إدارة المرحلة الانتقالية قراراً يعبر عن القوة في مواجهة قتل الجنود على الحدود؟ سؤال لم يكن له إجابة، بينما روح الثورة يقظة، تحاول أن تبني كرامة جديدة للفرد العادي. تبني كرامة لدولة حرة، لا دولة تعيش بجلد التمساح ونفسية الفئران.
وهذا هو الوجه العفوي الذي خرج عن مسار جمعة «تصحيح المسار»، التي استعادت فيها الثورة الميدان، وعبّرت عن رفضها كل إشارات العودة الى مبارك. العفوية خرجت عن العقل، لكنها شحنت العقل أيضاً، وعليهما الآن الالتقاء في منعطف جديد، بعدما تخلصت الثورة من شحومها، وعلى جسمها الفاتن الدخول في مرحلة «الجهاد الأكبر».