الفلوجة | شوارع الفلوجة لا تحفل بالكثير من السيارات الإيرانية الصنع، فمهما رخص ثمنها فإن السكان في المدينة وأغلب القاطنين في محافظة الأنبار لا يرغبون كثيراً في اقتنائها، فعملية المقاطعة طبيعية على ضفتي النزاع العراقي القائم.
السنة في العراق يقاطعون المنتجات الإيرانية، ومن ضمنها سيارات صغيرة يستخدمها العراقيون كسيارات تاكسي بكثرة، ولا يتعدى ثمنها 8300 دولار أميركي، بينما يقاطع الشيعة كل المنتجات السعودية، من البيبسي إلى العصير والمياه واللبن ومختلف الأصناف.
ولا تشذ الأنبار، المحافظة الأكبر مساحة، وذات الغالبية السنية المطلقة، عن حالة المقاطعة هذه، وفي شوارع الفلوجة حيث لا تجد سيارات إيرانية، ستشاهد أيضاً الكثير من آثار العمليات الحربية التي خلفتها معارك الفلوجة الأولى والثانية في عام 2004.
في الشارع الطويل الذي يصل بغداد بالحدود السورية، وخصوصاً في الطريق القديمة أسفل الأوتوستراد السريع، عملت مختلف الفصائل القتالية في العراق على تحويل حياة الأميركيين الغزاة إلى جحيم، وسمي الطريق طريق الموت، ولا تكاد تمر دورية أميركية من دون تعرضها لأعمال هجومية: عبوة ناسفة، قنابل حارقة، قذائف صاروخية، فخاخ وأشراك، وأضعف الإيمان نيران قنص وحتى رمايات رشاشة على المدرعات للإرهاب والإرباك.
الأميركيون، من ناحيتهم، يبحثون عن أي ذريعة لإطلاق الرصاص وقصف المدنيين وضربهم، ويعرض بعضهم من على أبراج عربات الهامفي والدبابات مهاراتهم في إطلاق النار من المسدسات واللهو بهذه المسدسات وإدارتها حول أصابعهم على طريقة رعاة البقر في الغرب الأميركي.
وعلى عكس ما يقول المسؤولون الحكوميون في بغداد بأن كل العراق كان في حالة أمنية مستقرة قبل وصول القاعدة في منتصف عام 2004، وأنه لم لم تسجل أعمال قتالية في أي منطقة، لا على الأميركيين ولا على العراقيين خلال العام الممتد من شهر نيسان 2003 إلى شهر آذار من عام 2004، يتحدث أهالي الأنبار الذين تلتقيهم، ووجهاء المنطقة وخاصة في الفلوجة والخالدية والرمادي، عن عمليات بدأت مع أيام الاحتلال الأولى للعراق.
ويقول هؤلاء إن الأنبار، بعشائرها ومثقفيها والجسم الناشط سياسياً، احتضنت العديد من الضباط في الجيش العراقي الذين فروا من بغداد إثر السقوط، كذلك فإنها ساعدت العديد منهم على العبور إلى سوريا بعد السقوط، وكان الأهالي متعاطفين مع الجيش، الذي كانوا يعدّون أنفسهم خزانه الأول (علماً بأن الإحصائيات تقول إن الشيعة، وخاصة أهل مناطق الجنوب والجنوب الشرقي هم الغالبية العظمى من الجيش العراقي السابق). ويقول أبناء الأنبار إنهم احتضنوا رجال البعث، رغم الأذى الكبير الذي كان يلحقه البعثيون بالسكان، وخاصة بالناشطين سياسياً منهم.
ثم أتى زمن الاحتلال وشركة بلاك ووتر الأميركية، فكانت عملية التمثيل بجثث أربعة من عناصر هذه الشركة هي ما أطلق حرب الفلوجة الأولى. وبحسب وجهاء من الفلوجة، جرت عملية ضد عناصر الشركة، وتركوا في أرض المعركة، ولم يقترب منهم المقاتلون، إلا أن بعض الشبان الموتورين قاموا بسحل الجثث والتمثيل بها وتقطيعها وتعليقها على أعمدة الكهرباء، ما أطلق الحملة الأميركية الأولى.
إلا أنه قبل انطلاق هذه الحملة، كان ثمة شيء غريب يجري في العراق، فناشطو حقوق الإنسان يتحدثون عن قرار إنشاء وزارة للمهجرين عام 2004، ولم يكن بعد هناك من مهجرين، كما يتحدث مقاتلون سابقون في الأنبار عن إعلان جون نيغروبونتي (السفير الأميركي لدى العراق 2004) حال تسلمه مهماته مجيئه لمحاربة الإرهاب، فيما لم يكن بعد هناك أي ظهور فعلي لتنظيم القاعدة أو لأي من القوى الموصوفة بأنها إرهابية بعد.
في المعركة الأولى في الفلوجة، عمل مقاتلون من اتجاهات مختلفة على الدفاع عن المدينة الهادئة والصغيرة، التي تمتد أفقياً شأنها شأن كل المدن العراقية القليلة الارتفاع. وكان المقاتلون يتقاطرون من الجنوب أيضاً، من مجموعات شيعية مختلفة للدفاع عن الفلوجة. كذلك، كان هناك بعض المقاتلين المسيحيين وبعض أكراد بغداد. وإلى جانب القوات الأميركية، شارك بعض البشمركة الذين جيء بهم من كردستان العراق.
وكانت الفصائل العراقية حينها أقل عدداً من اليوم، أهمها: جيش محمد، الجيش الإسلامي، تنظيم التوحيد والجهاد (الذي تحول لاحقاً إلى القاعدة)، كتائب النعمان، جيش الفاتحين، كتائب ثورة العشرين، فصائل الناصر صلاح الدين.
ونظم المعركة الأولى ضابط سابق من الجيش العراقي، تمكن من مقارعة الأميركيين ومنعهم من دخول المدينة طوال فترة المعارك، ثم أتى تنظيم القاعدة على خلفية المعركة الأولى لينتشر في المدينة، وبدأ توافد المقاتلين الأجانب من مختلف الاتجاهات لمصلحة تنظيم القاعدة، ومن لم يكن منهم من تنظيم القاعدة اضطر إلى الالتحاق بالتنظيم الأكثر قدرة على توفير مستلزمات المقاتل الأجنبي، أي القاعدة والقاعدة وحده.
في تلك الفترة الممتدة ما بين معارك الفلوجة الأولى والفلوجة الثانية، أي بين شتاء عام 2004 وخريف العام نفسه، برز في الفلوجة رجلان كقائدين ميدانيين: إمام مسجد سعد بن أبي وقاص في المدينة، عبد الله الجنابي، وكان بمثابة الزعيم الروحي لمقاومة الأميركيين منذ استقر الغزاة. والرجل الآخر هو قائد تنظيم القاعدة في الفلوجة عمر حديد، الذي كان يقود عمليات المقاومة في المدينة ومحيطها، ويصفه من عرفه بأنه معتدل، نسبة إلى ما شاهدوه لاحقاً من ممارسات التنظيم، وحديد، العراقي الأصل، قتل خلال عمليات الفلوجة الثانية، وهو من هدد الضابط العراقي الذي أدار المعركة الأولى بقتله إذا فشل في إدارة المعركة الثانية، ما أدى إلى إحساس الضابط بالإهانة والانسحاب من إدارة المعركة قبيل انطلاقها.
في مرحلة الإعداد للمعركة الثانية التي كان واضحا أنها مقبلة، أنشأ الرجلان «مجلس شورى المجاهدين»، رغم أن الأول صوفي والآخر سلفي، وتولى هذا المجلس إدارة المئات من المقاتلين الأجانب الذين عاشوا أشهراً في المدينة، لحد بدايات المعركة فيها.
ودائماً بحسب شهادات السكان والوجهاء في المنطقة، امتنع المقاتلون الأجانب عن التحادث مع السكان، أو الاقتراب منهم، أو مشاركتهم حياتهم في المراحل الأولى لمجيئهم، واكتفوا بطلب البيعة عبر القياديين العراقيين في التنظيم، وأطلقوا على أنفسهم أسماء متعددة، وراحوا يبدلون مواقعهم ما إن يرصدهم أي مدني عراقي.
وكان المقاتلون الأجانب يصطحبون شيوخ العشائر الموافقين على المبايعة إلى خارج العراق، أو على الأقل يوهمونهم بأنهم أصبحوا خارج الحدود العراقية، فيلتقي شيوخ العشائر بأمراء وهميين، ويعطونهم البيعة، ثم يعودون إلى الأنبار، وهو سلوك سيعتمده التنظيم مع أولئك الرافضين لتقديم البيعة لأشخاص ملثمين أو على نحو غير مباشر، من دون أن يكشف عن شخصيات أمرائه الفعليين في داخل العراق.
ومع اشتداد الضغط الأميركي في معارك الفلوجة الثانية، يروي السكان أن عناصر القاعدة العرب والأجانب تجمعوا في أحد أطراف المدينة ذات صباح ثم اختفوا تاركين المدينة للمقاتلين العراقيين من القاعدة ومن مختلف الفصائل المقاتلة. وتكثر الروايات عن مصير هؤلاء المقاتلين، وطريقة انسحابهم، أو سحبهم، وما جرى لهم. إلا أن السكان ما لبثوا أن شاهدوا المزيد من عناصر القاعدة الأغراب وهم يقومون بكمائن على الطريق السريع، أو في الحقول، أو علموا بوجود معسكرات لهم في مناطق مختلفة من الأنبار، وبقيامهم بعمليات خطف وقتل وإقامة حد، وقطع أصابع المدخنين، وكان أكثرهم تشدداً أولئك القادمون من الجزائر.
لم يكتف المقاتلون الأجانب بالانتشار في المزارع الفقيرة، بل راحوا يقيمون مراكز (غير ثابتة) ومواقع تدريب، امتدت على جانبي الحدود؛ فعلى الجانب السوري أقام المقاتلون القاعديون مواقع تدريب في دير الزور، وفي الجانب العراقي أقام هؤلاء أيضاً مواقع تدريب في عدة نقاط من المناطق الصحراوية المتاخمة للحدود السورية. كانت الأنبار تحت السيطرة الكاملة، ومنطقة عمليات عسكرية، ويكفي أن يقرع المقاتلون الأجانب باب منزل في إحدى المزارع حتى يفتح لهم وتُقدم لهم المساعدة، على الأقل هكذا كانت الأمور قبل انتفاضة العشائر.
وبينما لا تزال منطقة الأنبار تعيش في أجواء النزاع، ورغم وجود شيعة من الأقلية القاطنة في المحافظة، تكسو علائم الصدمة تعابير أحد وجهاء المنطقة حين يصله اتصال ليخبره بأن أحد معارفه قد اعتقل واعترف بانتمائه إلى تنظيم القاعدة ـــــ دولة العراق الإسلامية. وهو الوجيه نفسه الذي يقول إن التنظيم بدأ منذ بدايات عام 2005 بالقيام بعمليات قتل فقط، ومحاولة السيطرة على المنطقة من دون القيام بأية عمليات ضد القوات الأميركية.
في تلك المرحلة لم يبذل الأميركيون أي جهد يذكر لمواجهة انتشار التنظيم الدولي في منطقة الأنبار. حينها، كانت الحدود مع سوريا مفتوحة، سواء عبر المعابر الحدودية الرسمية أو عبر دير الزور والمسالك المتعددة؛ فعشائر الأنبار تتحدث بلهجة قريبة جداً من لكنة أبناء المنطقة السورية المتاخمة، وترتبط بها بعلاقات وطيدة منذ مئات الأعوام. والعشائر تكاد تكون مختلطة، بعضها وجد نفسه في العراق، والأخرى وجدت نفسها في سوريا. ولا تزال هذه العشائر تتصاهر إلى اليوم، ومن المستحيل منع العشائر من الانتقال على جانبي الحدود. وبعض العشائر أعطت البيعة لقيادات لم ترها في تنظيم القاعدة؛ لأنها من القيادات الجهادية الإسلامية، قبل أن تغير هذه العشائر موقفها في وقت لاحق.
وهناك آلاف من القصص التي يخزنها السكان في ذاكرتهم عما قام به أمراء القاعدة في تلك الفترة، فهم كانوا يسطون على سيارات ويجردون أصحابها من ممتلكاتهم على مبعدة مئة متر من أبراج مراقبة أميركية لا يحرك من فيها ساكناً لمساعدة العراقيين. وكانوا يقومون بعروض سيارة في أنحاء من الفلوجة أو الرمادي على مبعدة أمتار من القوات الأميركية التي لا تطلق أية رصاصة على التنظيم الدولي.
وحين كان بعض وجهاء أو شيوخ العشائر يراجعون ضباط القوات الأميركية، كان هؤلاء يقولون لهم: «لن نتدخل بينكم، أنتم كلكم عراقيون».
مولت القاعدة نشاطها في الأنبار من الأموال الخارجية، التي جُبيت وجمعت للجهاد، على الأقل في المراحل الأولى. حينها، وصل تنظيم الزرقاوي بمدد مالي فائق، وهو ما كان يظهر من خلال دفع الأموال للمقاتلين، ومساعدة العشائر، والإنفاق على عمليات مكلفة، واستئجار المضافات، وشراء السيارات والعتاد.
من كان يعرف القاعدة جيداً، وخاصة في وزارة الداخلية، يقول إن العديد من دول الخليج التي ساهمت في تمويل القاعدة قامت بعمليات تمويل ملتفة وطويلة قبل أن تصل الأموال إلى القاعدة، فلم يكن ممكناً للسلطات العراقية إثبات تورط الجهات الخليجية الرسمية، بينما كانت الحركة ما بين الأنبار والكويت مرصودة، حيث تسلل عشرات المقاتلين إلى مناطق الأنبار، التي تتصل بسوريا والأردن والكويت والسعودية.
لكن القاعدة، مع دخول عام 2005، تحولت إلى آلة للسيطرة والقتل، وتصفية المجموعات القتالية المختلفة عنها، التحريض المذهبي هو الشعار، ولكن في الأنبار لا يكاد يوجد من الشيعة إلا أولئك الذين انتقلوا إلى إحدى نواحي الأنبار من الفلوجة أو الرمادي، مع عائلاتهم وبحكم الوظيفة خلال فترة حكم صدام حسين، فكان التحريض على طائفة غير موجودة عملياً في المحافظة، بينما القتل والسرقات والإتاوات تقع على أبناء المنطقة من السنّة لأسباب متنوعة.
وبعد تراكم ممارسات القاعدة، بدأت مجموعات من المقاتلين ضد القوات الأميركية بالتجمع تحت مسمى «ثوار الأنبار»، بحسب ما يقوله عدد من وجهاء المنطقة، الذين يرفضون الرواية الرسمية لانتفاضة شيوخ العشائر، وإنشائهم الصحوات، التي تخلت عن مساندتها للقاعدة وتحولت إلى مساندة السلطة المركزية في بغداد.
ويضيف وجهاء من الفلوجة والخالدية والرمادي أن المواجهات الأولى خاضها «ثوار الأنبار» ولم تكن تحظى بأي دعم من بغداد، ولا من شيوخ العشائر، بل جيء بالصحوات في مرحلة لاحقة، وقامت المواجهات لتطهير الأنبار ومنازلها المتناثرة في بساتين النخيل ومزارع السمك من عناصر القاعدة الأجانب، وصولاً إلى ضرب المجموعات العراقية المنتمية إلى التنظيم.
بعدها تحول التنظيم إلى العمل السري، ولا يزال فاعلاً حتى اليوم، وهو قام بقتل المئات من المتعلمين والمثقفين في المنطقة، بينما كرست السلطات العراقية الجديدة مفهوم العشائر الذي كان العديد من متعلمي المنطقة يرفضونه ويمثّلون قاعدة متعلمة تتجه بهذه المنطقة المهملة إلى حالة تنموية بعيداً عن الحالة العشائرية.
(بعد غدٍ: كركوك تخالط الأشباح)



القيادة والهيكلية

يورد تقرير أمني سري صادر عن الأجهزة الأمنية العراقية خلاصات التحقيقات عن الهيكليات التنظيمية لـ«القاعدة» على النحو الآتي:
1. القيادة العليا: وهي القيادة التي تعلن عن نفسها عبر وسائل الإعلام.
2. الخلايا: وهي في الغالب خلايا قتالية، وإن كان هناك الكثير من الخلايا تمارس مهام أخرى.
3. القيادات الوسطية: وهي القيادات التي تمثّل حلقة الوصل بين القيادة العليا والخلايا.
4. القيادات الميدانية: وهي القيادات التي تشرف على التقسيمات الميدانية التي وضعتها القيادة.
5. الجهاز الاستخباري: وهو الذي يزوّد الأطراف الأخرى بالمعلومات اللازمة لتنفيذ مهماتها.
6. جهاز الاغتيالات: وهو الجهاز المسؤول عن تنفيذ عمليات الاغتيال بكل أنواعه.
7. جهاز الإدارة للعمليات الانتحارية: من خلال تتبّعنا ودراستنا للعمليات الإرهابية الانتحارية التي نُفِّذت في العراق، تأكد لنا أن جهة واحدة هي التي تقف خلفها وتديرها، وذلك لتشابه الأسلوب والأدوات والوسائل.
8. الجهازان الإداري والمالي: وهما جهازان لا غنى عنهما في كل عملية تنظيمية.
9. جهاز الارتباط: وواجب هذا الجهاز تنسيق وتحقيق الارتباط بالقوى الإرهابية الداخلية.