بغداد | تنخفض درجة الحرارة ليلاً إلى حدود 40 مئوية. آليات تابعة للقوات الأميركية في العراق تضيء مصابيحها الأمامية، والكاشفات الجانبية الكبيرة تُعمي من يمر قربها. وتحمي هذه الآليات قوافل من الشاحنات المدنية التي تقطر وتحمل معدات قوات الاحتلال إلى الشمال، على طول الطرقات الممتدة ما بين العاصمة العراقية والشمال، حيث الأماكن الأكثر أمناً، حيث كردستان العراق ومن خلفها الحدود مع تركيا.
الانسحاب الأميركي التدريجي ينتظر توافق الكتل السياسية العراقية على أسلوبه وتفاصيله، وكذلك الموافقة على العرض الأميركي بالحفاظ على قوات لتدريب الجيش العراقي، مع ضمان ألا يقع جنود القوات الأميركية الباقية في العراق تحت أي محاكمات من أي نوع كان.
وفي الشارع، لا أحد يصدق أن الانسحاب الأميركي أمر واقع. لا في الخريف المقبل، ولا في غيره من فصول العام الحالي أو ما بعده. لا شيعة ولا سنة ولا تركمان، ولا صابئة، ولا أياً من أطياف التنوع العراقي. الكل يرى في ما يحصل مجرد تغطية أو تعمية لبقاء الاحتلال، بينما السياسيون لا يزالون مختلفين بشأن بقاء مدربين أميركيين.
الولايات المتحدة، إضافة إلى المدربين العسكريين، ستحتفظ في البلاد بقوات أمنية تتولى حماية سفارتها الأكبر في العالم، الواقعة في المنطقة الخضراء الشديدة التحصين. وستناط بها كذلك حماية القنصليات الأخرى في المحافظات العراقية المختلفة (وعددها 18 محافظة) باستثناء المحافظات الكردية.
السؤال الديموقراطي صعبة الإجابة في العراق. ما هي الديموقراطية التي تعيشها البلاد، وما هو مستقبلها، وكيف كان لها أن تتطور لو لم تقع أرض الرافدين تحت نيران الاحتلال والمقاومة والقاعدة والعنف الطائفي؟ لا أحد يمكنه تقديم الرد على هذه الأسئلة، ولا يمكن أحداً تقديم إجابة عن مصير تنظيم «القاعدة» في العراق في المستقبل القريب. هل يزول؟ أم ستتصاعد حدة عملياته في الأشهر المقبلة، والأعوام التالية على الاحتلال؟
«شلو هاذ شذب» (كل هذا كذب)، يقول ضابط الأمن في المطار، بعد أن ينهي مهمته الرسمية في التدقيق جانباً وتفصيلياً بسمة العبور. «أنت الآن حر، يمكنك أن تدخل البلاد، ولكن ماذا تريد أن تفعل بالضبط، وبغض النظر عمّا دونته في الأوراق؟». يسأل الضابط، الذي بدا هادئاً ومتعاوناً.
وما إن تلفظ عبارة «التطور الديموقراطي» في العراق حتى يقاطعك بقوله: «شلو هاذ شذب» (كل هذا كذب)، ثم يتحدث بطلاقة عن أكاذيب الحكومة والسياسيين، وعن الحرب الدائرة بعيداً عن الإعلام: «عليك أن تضرب أرقام الضحايا بعشرة، اعتمد زيادة صفر على الأرقام الرسمية من دون تردد، وإذا كان الحديث الحكومي عن الإنجازات، فانقص صفراً». وبعد أن يلزمك بالامتناع عن التدخين في حرم المطار، يسهّل حركتك، ويتمنى لك إقامة موفقة في العراق.
المطار اليوم أكثر تنظيماً مما كان عليه في عامي 2006 و 2007. كل العراق تغير، تطور، أو للدقة عاد قليلاً إلى طبيعته، بعدما عصف به الاحتلال الأميركي، فلم يبق ولم يذر. كان الدخول في الأعوام الماضيات إلى مطار بغداد أشبه بالسير في ثكنة عسكرية.
الأعوام الماضية، وخاصة في حدة النزاع الطائفي العراقي ـــــ العراقي، وذروة عمل تنظيم القاعدة في العراق، كان مطار بغداد خلية نحل للمروحيات الأميركية، وللطائرات العسكرية، وسط إجراءات أمنية قاسية وحتى عنيفة تطال القادمين والمغادرين للأراضي العراقية. نقاط تفتيش داخل المطار وخارجه، وجنود أميركيون ومرتزقة آسيويون ومن مختلف الأصقاع يملأون المساحات، ورجال أمن من جنسيات متعددة يديرون المكان جنباً إلى جنب مع التشكيلات العراقية الأمنية التي لم تكن واضحة المعالم بعد.
وعبر هذا المطار نفسه، دخل مئات من مقاتلي تنظيم القاعدة، عرباً وأجانب، مسؤولين وانتحارييين، ورغم التدقيق في هوياتهم وسمات عبورهم تمكنوا من التسلل إلى البلاد، حيث نفذوا أعمالاً حربية وعمليات انتحارية قتلت آلافاً من العراقيين، ونظموا شبكات قتالية أمنية في طول البلاد وعرضها، وشاركوا في حرب طائفية دامت أعواماً، قبل أن تبدأ حدة العنف الطائفي بالتراجع، ويُحَد من مخاطر تنظيم القاعدة، ويُمنَع من السيطرة على محافظات عراقية كاملة.
الغبار كان يأكل طاولات مطار بغداد في تلك الأعوام. سجادة الحقائب لا تكاد تدور، والكهرباء كانت تنقطع بصفة متواصلة عن حرم المطار، والمصاعد معطلة، والأرض دائماً متسخة، وطلب المال عند كل خطوة هو القانون الأوحد، والاهتراء يكاد يطيح كل التجهيزات، ما عدا ماكينات حديثة للكشف على الحقائب وأبواب الكشف على المعادن. وحين تطأ قدماك المطار، تسمع من يقول لك: «تصلون إلى بلادنا، وحين تخرجون من المطار، تفجّرون أنفسكم بأول تجمع بشري».
اليوم يمكن الحديث عن مطار دولي في بغداد، وعن بعض الرفاهية أيضاً، وقدر مقبول من النظافة، وتجهيزات تأخذ حقها بالحد الأدنى من الصيانة، تقلص الخوف من الأجانب، ولم تعد تلحظ ظهوراً مسلحاً عشوائياً، وصار الضباط يحدثونك بطلاقة عن بلادهم، لا بل عن كرم الضيافة العراقية الشهير، ولو كانت درجة الحرارة في الخارج 48 مئوية.
شوارع العاصمة تمتلئ بالسيارات صباحاً، هي استعادة للحياة الطبيعية في بغداد، بعد أعوام من الصراعات الدموية، ومن تحويل تنظيم القاعدة البلاد إلى مركز لعملياته.
الطرقات نفسها التي كانت تخلو من كل حياة عند الخامسة بعد الظهر من كل يوم، استعداداً لموعد منع التجوال في السادسة، تغص اليوم بالحركة، ومنع التجوال انحسر إلى الواحدة ليلاً وحتى الخامسة فجراً. الطرقات نفسها التي كانت تقف في منتصفها عربات الهامفي الأميركية وتطلق النار بنحو شبه عشوائي عقب سماع دوي انفجار، أصبحت اليوم تغص بالباعة الجوالين السائرين بين العربات، وبسيارات التاكسي.
لم تعد القوافل الأمنية تشهر السلاح في وجوه المارة والسيارات التي يصادف عبورها، ولا أثر للمقنعين في هذه القوافل الأمنية التابعة لشركات أمن خاصة يطلقون النار لإبعاد السابلة عن طريقهم. واختفت المروحيات الأميركية التي كانت تحلق طوال الوقت فوق شارع أبو نواس في الكرادة، أو تطلق نيرانها بنحو شبه عشوائي في منطقة الدورة البغدادية، وكذلك المدفعية الأميركية التي كانت تنطلق من المنطقة الخضراء لتصب حممها على ديالى، أو أطرافها. أصبحت الحياة أكثر احتمالاً للبغداديين، وباتوا لا يشاهدون الأميركيين في شوارعهم إلا نادراً، وفي داخل آلياتهم أغلب الوقت.
وأصحاب المحالّ التجارية، الذين كانوا يستقبلونك بنظرة الريبة وتمنيات بمغادرتك (كأجنبي) سريعاً لمحالهم، أصبحوا اليوم يستقبلونك بابتسامة بعد أن يرفعوا عيونهم عن شاشات كومبيوتراتهم المفتوحة على صفحات الفايس بوك.
في بغداد اليوم 56 محطة فضائية، بعضها يستحق المتابعة، وأخرى قد لا تثير اهتمام أي مشاهد. لكن الأحاديث نفسها في كل المحطات، كما في كل الأرجاء. اليوم أصبح العراقيون الذين يتبرمون من السياسيين، يتحدثون بصراحة عن ترك الأميركيين لتنظيم القاعدة يعمل بحريته في العديد من المحافظات العراقية، وخاصة في الأنبار.
كانت الدوريات الأميركية موجودة في الرمادي (عاصمة محافظة الأنبار)، بينما كانت القاعدة تسيطر على المنطقة، بحسب ما يخبرك أحد الإعلاميين المتابعين لتفاصيل تلك المرحلة، بينما يمنع الانقسام الطائفي أو الاقتناعات الشخصية وجود نظرية واحدة عن مسيرة أبو مصعب الزرقاوي ومجيئه إلى العراق. البعض يتحدثون عن خط سير أو انتقال من باكستان إلى إيران ثم العراق. ويؤكد آخرون أنه انطلق من باكستان إلى الإمارات ثم إلى الأردن أو الكويت، قبل أن يحطّ رحاله في العراق. بينما يؤكد البعض أنه وصل قبل انهيار النظام العراقي، وأن الرجل التقى بالرئيس العراقي الأسبق صدام حسين.
إلا أن الاتفاق بين من تلتقيهم بشأن الفئات التي مثّلت عنوان المرحلة الماضية، أولئك الذين قرروا مواجهة الاحتلال الأميركي، وهم الفئة الأولى التي عادت وانسحبت لاحقاً أو هاجرت أو اعتقلت أو جرت تصفيتها من الأميركيين والقاعدة والقوات العراقية، أو اختلفت مصائرها بين الانضمام إلى القاعدة أو العصابات أو التخلي عن كل شيء والبقاء في المنازل، وهذه الفئة تحركت مع بدايات انهيار نظام صدام حسين، ثم تآكلت مع تطور الأوضاع بنحو مأسوي في الأعوام التالية على الاحتلال (2003).
الفئة الأخرى عن تلك المرتبطة بالنظام السابق، التي تمكنت من العمل ضد الاحتلال وبقيت محافظة على حد أدنى من إمكاناتها وعقدت تحالفات مع القاعدة ومع بعض القوى المحلية والعصابات المسلحة. فئة العصابات المسلحة، التي يتهم بعض السياسيين الجدد صدام حسين بأنه أطلق المجرمين من السجون قبيل سقوط النظام، وسهّل بالتالي نشوء عصابات الأحياء هذه التي روعت المدنيين، وقامت بمختلف عمليات النهب والسطو والإجرام.
الفئة الأخيرة هي تنظيم القاعدة والقوى السلفية الجهادية التي أتت إلى البلاد. وفي البداية لقيت حاضنة مؤيدة لها ومساندة، وخصوصاً في بعض المناطق كالرمادي وديالى والموصل والتأميم (كركوك) وصلاح الدين، وغيرها، سواء لأن في هذه المناطق إرادة للتحرر من الاحتلال، أو لأن في هذه المناطق قاعدة للفكر الوهابي سابقة على سقوط النظام.
هذه المناطق تحولت لاحقاً إلى أراضٍ محكومة من القاعدة ودولة العراق الإسلامية، وبعض الفصائل وعصابات الأحياء، رغم انتشار القوات الأميركية فيها. واليوم ينفي الكثيرون أن يكون تنظيم القاعدة قد نفذ عمليات ضد القوات الأميركية، وخاصة أبو مصعب الزرقاوي، بل يؤكدون أن الأعمال التي قام بها التنظيم بتوجيهات الزرقاوي كانت ضد العراقيين حصراً، وأن العمليات المنفذة ضد القوات الأميركية كانت إما من تخطيط فئات أخرى وتنفيذها، أو من بعض المتحمسين من القاعدة الذين لم يتلقوا أوامر بالقيام بهذه العمليات.
وفي الرمادي تحكى حكايات عن تسلط القاعديين على السكان، وعن تحول التأييد إلى خوف من البطش. وحين بدأت عمليات تجفيف المصادر المالية عقد الأمر للإتاوات، فصار على السكان تمويل حراك الجهاديين، بعد أن كان هؤلاء يمولون السكان. ومن الحكايات تسمع الكثير عن الفتاوى، التي لا يوجد الآن ما يؤكدها.
فبعدما سُلِّم بعض الشبان من خلفيات ثقافية متواضعة زمام الأمور في إمارات الأحياء، صار بعضهم يستصدر فتاوى مثل ضرورة فصل بيع الخيار عن بيع البندورة، لمراعاة الفصل بين الذكر والأنثى، وتطليق متزوجات لعقد عليهن عقود المسيار (الزواج المؤقت للسفر)، إلى آخر ما هنالك مما لم يعد يمكن اليوم التمييز ما إذا كان دعاية سياسية لتحطيم صورة التنظيم الذي هز البلاد، أو إحدى ظواهر انتشار الفكر السلفي وتسليمه لبسطاء القوم وصغارهم.
وفي كل الأحوال، إن من يعارض اليوم الاحتلال الأميركي، ومن مختلف الطوائف، هو نفسه من يقف ضد تنظيم القاعدة وانتشار الفكر السلفي الجهادي.
شوارع بغداد لا تزال حارة، والمناطق لا تزال تحمل بعض الخطورة الأمنية، والخلايا الأمنية التابعة لهذه الجهة أو تلك منتشرة بكثافة. سيارات الشرطة تقف عند المفارق، وتفرض حواجز في بعض النقاط الحساسة، النزاعات الداخلية لا تزال عالية التوتر سياسياً، وأحياناً تنعكس بأعمال أمنية محدودة، حيث يتهم كل طرف خصومه بالقيام بعملية اغتيال أو غيرها من العمليات لأهداف سياسية. ولا يفكر أحد بإنشاء محكمة دولية للعراق، وقد لا تعثر بسهولة على من يؤيد الوجود الأميركي حالياً، ولكن دور القاعدة والسلفية الجهادية في تراجع مطرد.
في العراق اليوم سبع عائلات يهودية فقط لا غير، بعدما غادر بقية اليهود البلاد على دفعات، وينتبه من يخبرك عن أحوال العراق إلى أن هذه العائلات التي تدير ممتلكات اليهود المغادرين لم تتعرض لأية أعمال أمنية، «حقاً، كيف حدث أن الزرقاوي لم يقم بأي عمل ضدهم؟» يسألك محدثك وكأنه يخاطب نفسه.
انتشر تنظيم القاعدة مع بداية الغزو الأميركي للعراق في مناطق في الغرب والجنوب من العراق، وحاول أن يصل نقاط انتشاره ببعضها، ليصل إلى جنوب الخريطة العراقية، وكان المتسللون إلى العراق يفدون من مختلف المناطق الحدودية، ومن المطار، لكن بنحو رئيسي من النقاط الحدودية السورية، ومن إيران وتركيا والسعودية والأردن، ويحاولون أن يربطوا حدود إيران بحدود الأردن والسعودية، مشكلين خط مواجهة مع المناطق الشيعية، وتلك التي تنتشر فيها السلطات العراقية في بداية حكمها الضعيف.

غداً: «بعقوبة حيث يرقد أبو مصعب وضحاياه»



كردستان والعراق

انعزلت كردستان من اللحظات الأولى للغزو الأميركي، ومثّلت دولة شبه مستقلة، وترأست الجمهورية العراقية، وأصبحت زيارة المواطنين العراقيين لكردستان العراق تحتاج إلى موافقة مسبقة يستغرق إصدارها أسبوعاً تقريباً، وأقامت علاقات ود مع القوات الأميركية.
ومن لحظات الغزو الأولى، كان طموح الأكراد إلى إنشاء دولة مستقلة واضحاً، وبدأت القوات الكردية المعروفة بالبشمركة بسحب ممتلكات الدولة إلى المناطق الكردية، ومحاولة ضم أقاليم إضافية، واستجلاب المزيد من السكان، واجتذاب خبرات ورؤوس أموال، كردية ومسيحية.
وكان لافتاً القضاء على منظمة أنصار الإسلام، التي يرأسها الملا كريكار (نجم الدين فرج أحمد مواليد 1954 وهو لاجئ حالياً في النرويج). وتعرضت المنظمة لقصف عنيف من القوات الأميركية خلال الأيام الأولى للاجتياح الأميركي (2003)، وتكفلت قوات البشمركة بالقضاء الكامل على التنظيم ومؤيديه قبل أن تتسنى له استعادة أنفاسه.
أما باقي أراضي العراق، فكانت نهباً لخليط من الصراعات، تداخل فيها المذهبي بالإقليمي، والمقاوم للاحتلال بالانفصالي، والسياسي بالأمني والمافياوي.