لم أكن أتصوّر حينها أنّ تلك المجموعة القصصية الصغيرة التي صدرت عام 1989، وتحمل اسم «ثمار البلوط»، ستضعني في بداية الطريق المعبّد بالمتاعب والآلام والإحباطات والعزلة، طريق الكتابة. فنشر كتاب يعنِي اعتراف المرء لنفسه بأن عليه مسؤولية كبيرة تجاه القراء بعدما دخل في عالم النخبة، أو هكذا ظننت. دخول نادي الكتّاب يعني ببساطة تفرغاً كاملاً لنمط آخر من الحياة، هو التفاصيل التي لا يعيشها الإنسان الاعتيادي، كالبحث عن الجديد في سماء النشر، والاهتمام باللغة، وتوسيع الأفق الحضاري، وترسيخ الاسم في الصحافة، وامتصاص الوقت بالمعنى، والبحث عن الفرادة سواء في اللغة أو الموضوع، وهذا يجرّ إلى تعلّم شيء جديد كل يوم، وعلى قدر ما يتيحه جو الاغتراب الذي عشته آنذاك، وكنت أقيم في كوبنهاغن بعد سنوات قليلة على خروجي من العراق.
في العراق، نشرت ثلاث قصص قصيرة فقط في مجلة «الطليعة الأدبية»، وبين سنة خروجي من الوطن عام 1982 وحتى إصدار «ثمار البلوط» حوالى سبع سنوات، وكانت سنوات قضيتها في التنقل بين البلدان، كردستان العراق، إيران، سوريا، حتى استقرت بي الحال في الدانمارك لاجئاً من الحرب الطاحنة التي اشتعلت عام 1980 بين العراق وإيران.
سنوات بما فيها من ليال ونهارات باردة، شهدت بحثاً دائباً مع النفس حول الهوية، هويتي، وما الذي أريد أن أصنعه في حياتي، وخاصة بعدما اصطدمت مع بيئة جديدة ولغة جديدة ومجتمع يضع الإنسان على المحك، كأنه مرآة صقيلة تجبر المرء على النظر إلى روحه، ورغباته، وطاقاته، ليجيب عن السؤال الوجودي: سؤال من أنا، وما هو دوري في الحياة، وكيف أسخّر ما أمتلك من مصادر جوّانية للوصول إلى النجاح؟ السنوات الأولى لعيشي في الدانمارك شغلت فيها بمراجعة كثيفة للتجربة الحياتية والأفكار، بعد الخلاص من الجو العراقي الخانق على صعيد السياسة، والمجتمع، والخوف، والرعب اليومي، والكوابيس المتعاقبة، المكررة، والموت المجاني في جبهات القتال.

معظم القصص تجري في العراق برؤية استعادية نقدية لما عشناه من عسف، واضطهاد، وقمع، وموت
وكأي عملية مراجعة صادقة، لا بد للشخص من أن يصل إلى إجابات واضحة. أول ما عملت عليه في بيئتي الجديدة هو التخلص من عادة الكتابة اليدوية، ثم الحصول على طابعة، والبدء بمهنة الكتابة، أي التفرغ اليومي لكتابة القصص، وكانت القصة القصيرة في تلك السنين هي الطاغية في عالم السرد. أما الرواية، فكانت هامشاً ثانوياً واظب عليه عدد محدود من الكتّاب العراقيين وحتى العرب. معظم الأدباء العراقيين إما شعراء أو كتاب قصة قصيرة، وكان أن رحت أنسج قصصي بحيوية العطش إلى قول كل شيء، ومراجعة العقود الماضية بروح الحكاية، ومن هذا الجو، المرتبك، المتغير، الواقعي، المفروش بالحنين، ولدت قصص مجموعة «ثمار البلوط».
وقصة «ثمار البلوط» تدور أحداثها في كردستان العراق، حول أشخاص يقطعون الحدود من العراق إلى إيران وسط الثلوج والعواصف، وهو ما قادهم إلى حتفهم في النهاية، وبيئة كردستان كانت جديدة على السرد العراقي، وتجربة المقاتلين هناك ضد السلطة الديكتاتورية أيضاً، وقد نشرت القصة في جريدة «السفير» على صفحة كاملة. أعتقد أن ذلك قبل صدور القصة في كتاب بسنة تقريباً، وكانت أولى الإطلالات لي على بيئة ثقافية غير عراقية، وكانت دفعة معنوية لمزاولة النحت على حجر الحكايات. ثم نشرت قصة «دكة الموتى» في مجلة «الاغتراب الأدبي» التي يصدرها الشاعر العراقي صلاح نيازي من لندن مع زوجته الكاتبة سميرة المانع. وواضح أن القصة تتناول حدثاً صغيراً هو وصول جثة جندي مجهول الهوية إلى مكان لغسل الموتى وتجهيزهم للدفن في إحدى المدن الخلفية لجبهات القتال. وهكذا قصة «الفتاة والخنفساء» عن مراهق يتلصص على جيرانه في واحدة من المدن العراقية الصغيرة، لكي يرى فتاتهم وهي تتجول في الحديقة عارية الفخذين كي يستمني على اللقطة، التي تعدّ في منتهى البورنوغرافي في ذلك المجتمع المغلق. معظم القصص تجري في العراق، قبل امتصاص روح المنفى وتفاصيله، في الجبهات والمدن وكردستان العراق، برؤية استعادية نقدية لما عشناه من عسف، واضطهاد، وقمع، وموت، كما لو كانت الكتابة جردة حساب لماض غادرناه ولم يعد يعصف سوى في الذاكرة.
ومثلما تكون الكتابة هماً يومياً لأي كاتب، كذلك هو النشر، وخاصة لكاتب ناشئ غير معروف. بعدما جمعت ما يقرب السبع قصص، مصفوفة على الآلة الكاتبة، قبل شيوع الكومبيوتر، بدأت أفتش عن مكان للطبع. وصادف أن كانت هناك مجموعة من الكتّاب العراقيين يعيشون في الدانمارك، منهم الشاعر جمال جمعة، والشاعر جمال مصطفى، والشاعر والروائي حميد العقابي وأنا وآخرون، أصدروا مجلة سموها «الصوت»، ترأس تحريرها جمال جمعة. بعد فترة من ظهور أعداد من المجلة، حاول تحويلها إلى دار نشر، وهذا ما حصل. خرجت مجموعتي القصصية «ثمار البلوط» تحت اسم «دار الصوت»، رغم أن طباعة الكتاب تمت في ألمانيا، وأتذكر شكل الغلاف حتى الآن، وهو عبارة عن صورة فوتوغرافية أخذتها بكاميرتي الشخصية لنبتة صبار دانماركية توحي بظل غامض ليد توشك على إمساك روح المغترب في غفلة منه. في ألمانيا، كان يعيش الشاعر العراقي خالد المعالي، وكان في بدايات تأسيس «دار الجمل»، في مدينة كولونيا الألمانية. والمفارقة أن أول كتاب طبعه لي الصديق خالد المعالي هو «ثمار البلوط»، وآخر رواية وتحمل اسم «أنا ونامق سبنسر»، صدرت عن «دار الجمل» في 2014، وبينهما طبعاً أكثر من 15 كتاباً، لكل كتاب قصة وخبر، أي ثمة مسافة زمنية تقارب الربع قرن، وكلما فكرت في هذا الزمن الطويل أعجب من كثرة الأحداث التي مرت بين هذين التاريخين، سواء عليّ أنا أو على العالم والمنطقة وبلدي العراق.

لو قدر لي قراءة المجموعة اليوم، لوجدت فيها خطوطاً عريضة من الأعمال التالية التي أصدرتها، مثلما يحمل الرجل الناضج بعضاً من ملامح الطفل الذي غادره قبل نصف قرن

أحداث لتنوعها وسعتها، تحتاج إلى قرون لاستيعابها، وحيوات عديدة للكتابة عنها، وفيها آلاف البديهيات والمسلمات التي تهاوت بسرعة خاطفة، مع فورة التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصالات والاكتشافات العلمية المذهلة، واهتزاز الأيديولوجيات الكبرى وتشظي المجتمعات، كما مات عشرات من معارفي وأصدقائي، وولدت أطنان من الحكايات والقصص، وشعلة الكتابة ما زالت تتلظى في روحي، وكأنها مصرة على أن لا تنطفئ حتى تأخذ معها الجسد والروح سوية.
قبل ربع قرن، في العاصمة الباردة كوبنهاغن، تسلمت مئات النسخ من «ثمار البلوط»، وبالمناسبة لا يمكن التلذذ بثمرة البلوط إلا بعد شيّها على النار، هكذا علمني الجبل ذات يوم من مغامرتي الحياتية، فسخّرت نفسي أسابيع لتوزيعها بريدياً على الكتّاب العراقيين والعرب من معارفي، وكانت تلك هي الطريقة الوحيدة لإيصال المطبوع، ونحن نعيش في الشمال الاسكندنافي، بعيدين آلاف الأميال عن القراء الذين نكتب لهم، وبلغتهم. ومن المفارقات أنني تلقيت رسالة طويلة من الشاعر شيركو بيكه س عن المجموعة، وكان يعيش وقتها في السويد، وكانت رسالة مشجعة وناقدة وعميقة، مكتوبة بعناية شديدة، سعدت بها جداً، لكنها ضاعت مني للأسف بعد تنقلاتي الكثيرة بين البلدان، والأوضاع، والبيوت. فيما جاءت مقالة الشاعر والناقد العراقي فوزي كريم عن المجموعة رائعة، ونافذة، وقد نشرها في جريدة «الشرق الأوسط» الصادرة في لندن. لقد حمل البريد مجموعتي تلك إلى المغرب وتونس وبريطانيا وهولندا وسوريا، وغيرها من البلدان، لأشخاص عرفتهم، أو سمعت بهم من خلال الكتب والصحافة.
ليس من عادتي قراءة ما يصدر لي من قصص وروايات بعد النشر، إذ يصبح النص في يد القارئ، ولا سبيل لتغيير شيء فيه، لكنني اليوم أعتقد أنني لو قدر لي قراءة مجموعة «ثمار البلوط» لوجدت فيها خطوطاً عريضة من الأعمال التالية التي أصدرتها، سواء في القصة أو الرواية، مثلما يحمل الرجل الناضج بعضاً من ملامح الطفل الصغير الذي غادره قبل نصف قرن. فوراء كل نص رؤية حياتية عامة، لا يمكن تغييرها جذرياً، تحددت ذات يوم، جينياً، البطء والكثافة والتركيز والعصبية وسعة الأفق، قبل أن يرى الفرد النور، وتلاقحت مع ما عاشه في الطفولة والبلوغ بين دفّتي كتاب غرائبي، مكون من الزمان والمكان، المحددين ببقعة جغرافية وتاريخ يبتدئ بالولادة وينتهي في ذراع الموت القادم، حتماً، ذات يوم.