خمسة أعوام كانت كافية لانفضاض غبار المعارك عن الشاشات، لكنّ حرب لبنان الثانية لا تزال حاضرة في الوعي السياسي الإسرائيلي كصفحة يتمنّون طيّها. كانت تلك الحرب، التي امتدت 33 يوماً، كفيلة بأنّ تضع قادتها الإسرائيليين تحت جنح الظلام السياسي، فالقادة «الواعدون» الذين بنت عليهم الدولة العبرية الآمال الجديدة، بعد غياب جيل المؤسسين، تحولوا إلى قادة «سابقين»، يحاولون اليوم عبثاً العودة إلى حياة السياسة: من يبحث عن «وريث» أرييل شارون، رئيس الحكومة السابق إيهود أولمرت، فسيجده في هذه الأيام تحديداً في جلسات قضايا الفساد التي تورّط فيها.
كاتب الخطابات الموهوب، يقتصر ظهوره الإعلامي، في هذه الأيام تحديداً، على الأخبار التي تتناول محاكمته. أما وزير الدفاع السابق، عامير بيرتس، فيحاول جاهداً العودة إلى قيادة حزب العمل المفكك أصلاً، ويحاول تجنيد كل عابر سبيل للتصويت له دون فائدة. وقائد الأركان السابق، دان حالوتس، الذي كان قائداً لأكبر سلاح جو في المنطقة، دخل عالم البزنس ليدير شركة لاستيراد سيارات «بي ام دبليو» بعد استقالته من الجيش، وترك الشركة لينضم أخيراً إلى حزب «كديما»، لكن عليه الانتظار قليلاً، فدور منتظري القيادة في ذلك الحزب لا يزال طويلاً.
الحديث عن حرب لبنان الثانية، إسرائيلياً، لا يمكن أن يكتمل من دون وضع سنة الحرب في سياقها التاريخي. فالحديث عن قادة حرب لبنان الثانية يستدعي الخوض في غمار «موسم التحولات» الذي بدأه أرييل شارون. لا يمكن تجاهل عام 2005 في السياسة الإسرائيلية، فهو العام الذي عزّز فيه شارون رؤيته السياسية بتأييد دولي وصمت عربي، حين حوّل خطة فك الارتباط عن غزّة إلى «مشروع سلام»، إضافةً إلى استمرار بناء الجدار (علاوة على تصفية النشطاء الفلسطينيين واجتياح جنين عام 2002) وتأسيس حزب «كديما». ذلك العام شهد أيضاً ظهور قادة حرب لبنان الثانية: عامير بيرتس وإيهود أولمرت ودان حالوتس، كما شهد غياب شمعون بيريز عن قيادة حزبه الأزلي «العمل» (بعد خسارته لعامير بيرتس في تشرين الثاني 2005) وقراره الاصطفاف إلى جانب شارون بعد خصومة سياسية أزلية، فانقلبت الخارطة السياسية، رغم أنّ التوجهات السياسية ذاتها لم تتغير. من هذه الوضعية ولد قياديو حرب لبنان.

«التوقعات في السماء»

«موسم التحولات» بدأ في حزيران عام 2005. أرييل شارون ووزير دفاعه شاؤول موفاز يقرران عدم تمديد فترة قائد هيئة الأركان بوغي يعالون. يعالون لا يزال حتى اللحظة يشعر بالمرارة، لكنّ مرارة يعالون لم تؤثّر، فقد أعلن شارون وموفاز اسم قائد سلاح الجو الإسرائيلي ليكون قائداً لهيئة الأركان. كان التعيين استثنائياً، فللمرة الأولى في تاريخ الدولة العبرية يعيَّن قائد للجيش من سلاح الجو، لا من سلاح البر. تعيين صاحب البزة الزرقاء (لباس سلاح الجو) سبقته عناوين متفائلة: «يديعوت أحرونوت» كتبت عنواناً رئيسياً في حينه قالت فيه إنّ «التوقعات في السماء».
القائد الجديد الذي ولد في عام النكبة لأب إيراني وأم عراقية، تربع على عرش التحليلات، مراقبون كثيرون رأوا أن تعيينه يعني أنّ الأنظار متجهة نحو سلاح الجو، وهذا يعني بين السطور وقف المشروع النووي الإيراني بواسطة سلاح الجو. «القائد الواعد» و«النخبوي» جاء إلى القيادة العامة حاملاً من ماضيه تصريحات إعلامية عدائية لأبعد الحدود: في عام 2004، أجرت «هآرتس» مقابلة معه بعد فترة وجيزة من عملية اغتيال القيادي في غزة صلاح شحادة، التي راح ضحيتها أكثر من 16 فلسطينياً، من بينهم أطفال. سئل حالوتس في حينه عمّا يشعر به الطيّار حين يلقي قنبلة وزنها طن على مكان مأهول بالسكان، فردّ بقوله «إذا أردت أن تعرف ما أشعر به أنا حين ألقي قنبلة؟ ضربة خفيفة بالجناح (جناح الطائرة) وتختفي بعد ثانية».
كان حالوتس يتمتع بشعبية كبيرة، وخصوصاً أثناء ولاية حكومة شارون وخطة الانسحاب من غزة التي كانت أولى مهمّاته، لكن شعبيته بدأت تتلاشى في حرب لبنان الثانية، وتحديداً عندما بدأت الخسائر في الجانب الإسرائيلي. خلال تلك الحرب سألته الصحافية ايلانه ديّان عن رأيه في الانتقادات الموجهة إلى طريقة إدارته الحرب فردّ بالإنكليزية «I really don’t care» (حقيقة لا يهمني). مع نهاية الحرب، لم يعد حالوتس محبوب الإعلام، فقد جرى الكشف عن أنه باع أسهمه في البورصة بعد أسر الجنديين الإسرائيليين، أي إنه تفرغ لحياته الشخصية في وقت تخوض الدولة فيه حرباً. قضية ضربت صورته الجماهيرية. ومن «لا يهمه الأمر» أجبر على الاستقالة حتى قبل إعلان نتائج لجنة تحقيق «فينوغراد»، وغاب عن المشهد السياسي في كانون الثاني عام 2007. هناك كانت نهايته العسكرية والتوقعات التي بدأت في السماء، سقطت من هناك إلى «بي أم دبليو».
قرر حالوتس دخول عالم السياسة، غادر البزنس وانضم إلى حزب «كديما»، لكنّ عليه الانتظار. شاؤول موفاز يحلم بقيادة الحزب واستبدال تسيبي ليفني. وهو أيضاً يملك خبرة عسكرية (ووزير دفاع سابق) والأهم أنه لم يكن من قادة الحرب في لبنان.

أولمرت يكسب الرهان

هنا حكاية سياسية أخرى، هي قصة وزير دفاع حرب لبنان الثانية، عامير بيرتس، وهي أيضاً بدأت عام 2005. بيرتس، القادم من نقابات العمّال، يفوز بالانتخابات الداخلية لحزب العمل، متغلباً على خصمه شمعون بيريز، أحد مؤسسي الدولة، المعاصر لبن غوريون، و«أبو» المفاعل النووي الإسرائيلي. يمكن القول إنّ بيريز كان الرابح الأكبر في استطلاعات الرأي، والخاسر الأزلي في صناديق الاقتراع. وهو عرف أصلاً بتسميته الإعلامية بـ «الخاسر»، بعد سلسلة خسائر تاريخية من عام 1977 أمام مناحيم بيغن، وصولاً إلى خسارته أمام بيرتس عام 2006. لكن خسارة بيريز أمام بيرتس كانت أعمق، وخصوصاً أنّ الرجل المغربي الأصل، المشتهر بشاربه الشرقي، فاز برئاسة أكثر الأحزاب أشكنازية. كان فوز بيرتس يعني إنهاء ائتلاف «العمل» و«الليكود» في الحكومة. ويعني على نحو غير رسمي انتخابات مبكرّة. وأكثر من هذا، في نفس الشهر، أعلن شارون انسحابه من حزب الليكود، وتشكيله حزب «كديما»، وعزمه على حلّ الكنيست الإسرائيلي والذهاب إلى انتخابات
مبكرة.
موسم التحولات لم ينته، فقد طاول شمعون بيريز، الذي انضم إلى شارون وحزبه الجديد «كديما» نهاية تشرين الثاني 2005، وعقد الاثنان مؤتمراً صحافياً مشتركاً. اصطفاف تاريخي بين أحد مؤسسي حزب «العمل» وأحد مؤسسي «الليكود» في حزب جديد سيحكم إسرائيل بعد شهور. كان انسحاب شارون من الليكود هدية لبنيامين نتنياهو، الذي أنهكته الخسائر قبالة شارون منذ عودة الأخير إلى السياسة. صار نتنياهو رئيساً لحزب الليكود، لكنّ الليكود بدا محطماً، وخصوصاً أن قادته غادروه الى كاديما.
كان إيهود أولمرت الى جانب شارون، وربح الرهان عندما غادر الأخير الليكود، فلحق أولمرت به مباشرة وكسب المكان الثاني. عندما دخل شارون في غيبوبته في كانون الثاني 2006، كان هو الوريث الطبيعي له. وصار رئيساً للحكومة مدعوماً من الإعلام الإسرائيلي. «يديعوت أحرونوت» رأت أن أولمرت، منذ غياب شارون، قام بـ «صفر من الأخطاء». عند فوزه، أجبرته التحالفات على منح حزب العمل وزارة الدفاع لبيرتس، الذي دخل عالماً لا يعرفه. وبدأ مسلسل الخيبات. مسيرة أولمرت وبيرتس لم توفق. «حماس» تأسر جندياً في حزيران 2006، وحزب الله يأسر جنديين في الثاني عشر من تموز. فشن الاثنان حربين على غزة ولبنان.
أولمرت الذي أعلن الحرب رسمياً على لبنان، أطلق في أيامها الأولى خطاباً مدته 19 دقيقة، وضع فيه نصب عينيه أهدافاً لم تتحقق. وبيرتس أطلق تصريحات هو الآخر، كان أهمها «نصر الله لن ينسى من هو عامير بيرتس» لم تتوافق مع الجو العام، وخصوصاً بعد نهاية الحرب حين صمّم على أنّ الدولة العبرية انتصرت في حرب لبنان الثانية.
تحول بيرتس الى ملك الساتيرا (البرامج الساخرة). صار التركيز أكثر على جهله الحياة العسكرية. وجرى فضحه حين وقف عند الحدود اللبنانية مع قائد هيئة الأركان الجديد غابي أشكنازي ينظر من منظار واجهته مسدودة، فتحول الى سيرة المعلقين، علماً بأنّ هذا خطأ مألوف، ارييل شارون أيضاً صُوّر يوماً وهو ينظر من منظار واجهته مغلقة. لكن بيرتس ليس شارون. تراجعت شعبية بيرتس وخسر رئاسة الحزب لإيهود باراك، الذي صار هو وزيراً للدفاع في حكومة اولمرت.
أما أولمرت، فقد كان مثابراً أكثر، لكن شعبيته تراجعت تراجعاً مهولاً قادته إلى خطابه المشهور «أنا رئيس حكومة لا أتمتع بشعبية». خاض أولمرت الحرب على غزة، لكنّ هذا لم ينقذه من مستنقع لبنان. قضايا الفساد اتسعت إلى حين تقديم لائحة اتهام ضده، حيث أُجبر على الاستقالة (علماً بأنه صار رئيس حكومة وفي تاريخه الكثير من قضايا الفساد). مراقبون كثيرون أشاروا إلى أنه لو كانت نتائج الحرب مغايرة، لما كانت قضايا الفساد المالي أساسية. فشارون أصلاً، الذي تمتع بالشعبية الأكبر، فاز بعدد المقاعد الأكبر عام 2003 حين كانت قضايا الفساد تهيمن على حاضره، لكن قضايا الفساد كانت ذريعة ضد أولمرت. ناحوم برنايع لخص، في «يديعوت أحرونوت»، وضع أولمرت بالقول إنه «مات في حرب لبنان ودفن في قضايا الفساد».
حكاية القادة الثلاثة هي قصة عن جيل القياديين المختلف في الدولة العبرية. بعدها، عادت الخيارات الإسرائيلية إلى ما كانت عليه قبل حرب لبنان الثانية. غابي أشكنازي صار قائداً لهيئة الأركان، وهو قادم من سلاح البر لا الجو. وعيّن إيهود باراك، صاحب الخلفية العسكرية وزيراً للدفاع دون مراهنات على أشخاص دون ماضٍ عسكري. وعاد المشهد السياسي بعد الحرب يمينياً أكثر من أي وقت مضى مع انتخاب نتنياهو رئيساً للحكومة، ما مثّل عودة الدولة العبرية الى التقليد المألوف. العسكريون القدماء هم القادة الجدد.



نهايات عسكرية

نهاية الحياة العسكرية والسياسية لقادة حرب لبنان الثانية لم تقتصر فقط على المستويات العليا، بل طاولت أيضاً القادة العسكريين في الميدان، وقد بيّن موقع «والا» الإسرائيلي صور القادة ونهاية حياتهم العسكرية. قائد المنطقة الشمالية السابق أودي آدم كان قد أقيل على نحو رسمي من منصبه خلال حرب لبنان الثانية، حين عيّن دان حالوتس نائبه موشيه كابلينسكي ليكون «مبعوثه» في المنطقة الشمالية. مع انتهاء المعارك قدم آدم استقالته فوراً. كذلك الضابط غال هيرش استقال من منصبه كقائد لمنطقة «إصبع الجليل» في أعقاب استخلاصات لجنة «ألموغ» العسكرية، التي حققت في قضية أسر الجنديين الإسرائيليين في حينه. هيرش الذي ظل صامتاً، أصدر كتاباً بعد نهاية خدمته اتهم فيه القيادة العليا للجيش الإسرائيلي، مدعياً أن هناك من أراد الانتقام منه. بعد مغادرته الجيش عمل على تأسيس شركة تقدم الاستشارات العسكرية إلى دول أجنبية. أما كابلينسكي، الذي شغل منصب نائب قائد هيئة الأركان، فقد أنهى مهمّاته عام 2007. اسمه تصدّر العناوين أكثر من مرة كي يكون قائد الأركان، لكن دون فائدة، كما أن قائد وحدة الاحتياط ايرز تسوكرمان، الذي نال الكثير من الانتقادات في أعقاب الحرب، أنهى مهمّاته في الجيش الإسرائيلي عام 2007، معرباً عن تحمله المسؤولية.
لكنّ هناك أيضاً من جرت ترقيته بعد الحرب رغم الانتقادات. منهم الضابط ايال ايزنبيرغ، الذي انتقدته على نحو كبير لجنة فينوغراد، إلا أنه واصل عمله في الجيش الإسرائيلي، وكان من قادة عملية «الرصاص المصهور» على غزة، وعُيّن أخيراً قائداً للجبهة الداخلية.