لا بدّ أن تكون الرسالة التي سجّلها الفلسطينيون والعرب في الذكرى الـ 63 لنكبة فلسطين، يوم أمس، قد وصلت إلى كل مكان؛ وصلت إلى مراكز صنع القرار في تل أبيب وواشنطن والدول الأوروبية والعربية، والأهم إلى المسؤولين الفلسطينيين، وذلك قبل فترة وجيزة من الإعلان المفترض للدولة الفلسطينية في شهر أيلول المقبل. رسالة مفادها أنّ الشعب الفلسطيني مستعدّ لخوض انتفاضة ثالثة، ليس في الأراضي الفلسطينية المحتلة فحسب، بل في أراضي الشتات أيضاً. هكذا، وجدت إسرائيل نفسها يوم أمس تسترجع ذكريات حربَي 1967 و1973، إذ كان عليها مواجهة شبه حرب مفتوحة على 3 جبهات، لكن ليس ضدّ جيوش العرب ولا حركات المقاومة، بل مع حشود شعبية فلسطينية وعربية قالت لجنود الاحتلال إنها مستعدة لدفع أي ثمن تتطلبه العودة إلى فلسطين، أو على الأقل، يتطلبه حلم العودة. تفاوتت حصيلة الشهداء والجرحى من «جبهة» إلى أخرى. كان للبنان الحصة الأكبر، مع وقوع 10 شهداء وأكثر من 100 جريح من بين عشرات الآلاف من الفلسطينيين القادمين من مختلف المخيمات الفلسطينية، إضافةً إلى عدد كبير من اللبنانيين. لكن ما حصل في الجولان كان علامة فارقة بالفعل، إذ سُجِّلَ تحريك لافت للنظر لهذه الجبهة المقفلة منذ اتفاقية الهدنة التي تربط بين إسرائيل وسوريا عام 1974. 4 شهداء سقطوا في الجولان بالنسخة الـ 63 لـ 15 أيار الفلسطيني الذي جاء مختلفاً جداً عن سابقاته هذا العام، كأنّ ربيع العرب انتقل من عواصم العرب إلى الحدود المتاخمة لفلسطين المحتلة. ولم يكن ينقص إلا السماح للفلسطينيين وللعرب بمواجهة جنود الاحتلال في مصر والأردن، اللتين ظلتا هادئتين نسبياً، نظراً إلى ما سبق يوم أمس من استعدادات أمنية وقمع حالت دون السماح للفلسطينيين والمصريين والأردنيين بالتوجه من مصر والأردن إلى الحدود المشتركة مع فلسطين، لكن كل ذلك لم يمنع المصريين مثلاً من التجمع أمام المبنى السكني الذي يضم السفارة الإسرائيلية في القاهرة، والمطالبة بإنزال العلم وإغلاق السفارة، فيما رفع سكان في المبنى الأعلام المصرية والفلسطينية على شرفات مساكنهم، على وقع مرابطة سيارات للقوات المسلحة أمام باب المبنى الذي أغلق بسلاسل حديدية.
وبقدر ما كانت تطورات يوم أمس كبيرة، وخصوصاً على الجبهات اللبنانية والجولان وغزة والضفة الغربية، بقدر ما كان ساحقاً الصمت العالمي الأشبه بالترقّب الحذِر. وحدها إسرائيل وقادتها سارعوا إلى تحميل الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه مسؤولية ما حصل في الجولان وفي جنوب لبنان على قاعدة أنه «أمر مثير للريبة فيما يبدو واضحاً أنه تصرف من الحكومة السورية لإحداث أزمة عن عمد على الحدود لصرف الأنظار عن المشكلات الحقيقية التي يواجهها النظام في الداخل».
في جميع الأحوال، سجّل الفلسطينيون «بروفا» ناجحة للانتفاضة الثالثة الموعودة في أيلول، أو قبل ذلك التاريخ أو بعده. وفي عناوين اليوم الفلسطيني الدامي الطويل، علامة مضيئة أخرى، وهي ما رأى فيه البعض ترجمة فورية لاتفاق الوحدة الفلسطينية التي وُقِّعَت على الورق قبل أيام، بحيث مُزجت دماء الفلسطينيين من جميع التيارات والفصائل، من دون تمييز بين فتحاوي وحمساوي أو غير ذلك. كان العلم الفلسطيني هو المهيمن في مارون الراس اللبنانية وقرب مجدل شمس السورية المحتلة، وعلى معبر بيت حانون في غزة، حيث استُشهد شخص وجرح العشرات، وفي رام الله وبقية مدن الضفة الغربية. في جميع هذه المواقع، استردّ الشعب الفلسطيني المبادرة من فصائله وتنظيماته السياسية على شاكلة ما يحصل في الانتفاضات العربية المتنقلة في العواصم العربية، وعلى نسق ما قد يحصل في الانتفاضة الفلسطينية الثالثة المأمولة. وإزاء ضخامة ما حصل، أمس، جاء الرد الإسرائيلي عنيفاً كالعادة، مع لجوء جنود الاحتلال إلى استعمال الرصاص الحي مباشرةً ضد الفلسطينيين والمواطنين العرب، وذلك بناءً على المبدأ الذي عمّمه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، الذي قال إنّ إسرائيل «عقدت العزم على الدفاع عن سيادتها وحدودها».
واستنفر المسؤولون اللبنانيون ليسجل كل منهم مواقفه إزاء الجريمة الإسرائيلية الجديدة. فقد دان رئيس الجمهورية ميشال سليمان «الممارسات الإسرائيلية الإجرامية ضد المدنيين المسالمين في جنوب لبنان والجولان وفلسطين»، علماً بأن سليمان تلقّى اتصالاً من أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، تناول فيه التطورات الجنوبية، مؤكداً وقوف قطر إلى جانب لبنان. ورأى الرئيس المكلف تأليف الحكومة اللبنانية، نجيب ميقاتي، أنّ العدوان الإسرائيلي يوم أمس، «يؤكد مرة جديدة أن هذا العدو لا يمكنه أن يستمر على أرض فلسطين إلا بالقتل والتهجير وتهديد المحيط». أما رئيس حكومة تصريف الأعمال، سعد الحريري، فقد رأى أنه «لا يسعنا إلا أن نسجل في هذا اليوم إدانتنا واستنكارنا الشديدين لإمعان إسرائيل في خرق حقوق الإنسان ومواجهة التحركات السلمية للمواطنين العرب في لبنان والجولان وفلسطين بالقتل والإجرام». وعلى صعيد متصل، دان حزب الله «الجريمة الإسرائيلية» في الجولان والأراضي الفلسطينية وجنوب لبنان، وذلك على لسان النائب حسن فضل الله، الذي كان قد شارك في فعاليات «مسيرة العودة إلى فلسطين» في مارون الراس. وقال فضل الله إن «حزب الله، إذ يدين هذه الجريمة الإسرائيلية، التي هي برسم الأمم المتحدة والهيئات الدولية، يؤكد وقوفه إلى جانب الحراك الشعبي الفلسطيني في كل المناطق، سواء في الداخل أو على الحدود».
وفي وقت لاحق، أعلنت الوكالة الوطنيّة للاعلام تقديم لبنان، عبر بعثته لدى الأمم المتحدة في نيويورك، شكوى لدى مجلس الأمن الدولي ضد إسرائيل، على خلفيّة جريمة بلدة مارون الراس. ورأى لبنان أن هذا الاعتداء يمثّل «عملاً عدوانياً، ويؤكد مجدداً انتهاك إسرائيل للسيادة اللبنانية واستهتارها بقرارات الأمم المتحدة».
وسجّلت القوات الإسرائيلية محاولة مفضوحة لتوريط الجيش اللبناني بهدف تحميله مسؤولية قتل الشهداء العشرة في مارون الراس. وقال مصدر عسكري في قيادة الجبهة الشمالية إنه «ليس مستبعداً أن يكون المتظاهرون في قرية مارون الراس اللبنانية قد قتلوا بنيران الجيش اللبناني لا الإسرائيلي». وأشار المصدر نفسه إلى أن «الأحداث في مارون الراس هي الأخطر التي وقعت اليوم بالنسبة إلينا، ولا نستبعد أن يكون القتلى هناك قد سقطوا بنيران الجيش اللبناني».

مشهد غير مسبوق
في الجولان

استُشهد أربعة أشخاص كانوا يشاركون في تجمع حاشد على الجانب السوري من حدود مرتفعات الجولان المحتلة، فيما اعتقل الاحتلال عدداً من المتظاهرين الذين اقتحموا الشريط الشائك إلى قرية مجدل شمس المحتلة، كبرى بلدات الجولان، وأصيب في المواجهة أكثر من 170 شخصاً على جانبي الحدود.
وفيما تضاربت الأنباء بشأن عدد الضحايا، ذكرت تقارير إعلامية إسرائيلية أن النيران الإسرائيلية قتلت لاجئين فلسطينيين اثنين من مخيم اليرموك، إضافةً إلى جرح ثلاثة جنود إسرائيليين أصيبوا بالحجارة. أما مراسل قناة «الجزيرة» في فلسطين المحتلة، وليد العمري، فقد أشار من ناحيته إلى أن الجيش الإسرائيلي أطلق النار انطلاقاً من مواقع عسكرية في بلدة مجدل شمس ومن منطقة جبل الشيخ المجاورة. مصادر في الجيش الإسرائيلي أعلنت من ناحيتها اعتقال عدد من اللاجئين الفلسطينيين بهدف التحقيق معهم، فيما أعلن الاحتلال المنطقة «عسكرية ومغلقة» في وجه وسائل الإعلام، كما الزوار.
وأفاد بعض سكان مجدل شمس بأن عدداً من المتظاهرين استطاعوا اقتحام السياج الحدودي وعبور حقول الألغام والتسلل إلى البلدة. وأبلغوا الإذاعة العامة الإسرائيلية أنهم لا يريدون بقاء المتسللين في القرية، لكن في الوقت نفسه لن يسمحوا لقوات الاحتلال باقتحام القرية واعتقالهم. وأجرت قوات من الجيش والشرطة الإسرائيليّين عمليات تفتيش في مجدل شمس للتأكد من خلو القرية من لاجئين فلسطينيين تسللوا من سوريا، كما أجرى الاحتلال مفاوضات مع وجهاء القرية بهدف إعادة المتسللين إلى المناطق المحررة. إلا أن مصدراً عسكرياً إسرائيلياً أكد لاحقاً أن الفلسطينيين الذين تخطوا الحدود عادوا نحو سوريا بالتنسيق مع الصليب الأحمر الدولي.
وسبق ذلك، إعادة الجيش الإسرائيلي جثتي لاجئين فلسطينيين إلى سوريا استشهدا بنيران جنوده بعد تخطّيهما الحدود في هضبة الجولان. وقال عدد من اللاجئين الفلسطينيين الذين وصلوا إلى مجدل شمس لوسائل إعلام إسرائيلية، إنهم لا يعتزمون البقاء في الجولان، لكنهم أرادوا أن يؤكدوا حقهم في العودة وقدرتهم على الوصول إلى «فلسطين» رغم كل الإجراءات العسكرية والأمنية الإسرائيلية.
وقال أحد هؤلاء للإذاعة العامة الإسرائيلية إن الدعوة إلى التظاهرة جرت عبر الشبكة الاجتماعية على الإنترنت «فايسبوك»، معرّفاً عن نفسه بأنه مواطن ألماني حضر إلى سوريا خصوصاً للمشاركة في التظاهرة وتخطي الحدود باتجاه الجولان. وأفاد آخر للتلفزيون الإسرائيلي بأنه مقيم في مخيم اليرموك في سوريا، وأن عائلته منحدرة من الجليل (شمال فلسطين).
في هذه الأثناء، قالت مصادر في مستشفى «زيف» في صفد، شمال فلسطين المحتلة، إنّ الجيش الإسرائيلي طلب من المستشفى الاستعداد لاستقبال 30 جريحاً من أصل 90 جريحاً من اللاجئين الفلسطينيين الذين تخطوا الحدود. من جهته، أجرى نتنياهو مداولات أمنية في أعقاب هذه التطورات، وأصدر توجيهات لجيشه بـ«ضبط النفس وتهدئة الوضع»، إلى جانب «الحفاظ على الحدود الإسرائيلية ومنع التسلل منها».
واتهم مسؤولون سياسيون وأمنيون إسرائيليون الجيش السوري بالسماح لمئات المتظاهرين السوريين بتخطي الحدود، بهدف صرف الأنظار عن الاحتجاجات في سوريا ضد النظام. وقال هؤلاء المسؤولون الإسرائيليون للإذاعة العامة إنه «بما أنّ الجيش السوري يسيطر على الدولة بقوة بالغة، فإن التقديرات هي أن الجيش الذي يسيطر بقوة على الحدود بادر إلى دفع متظاهرين لتخطي الحدود، مستغلاً ذكرى النكبة لصرف الأنظار عما يحدث داخل سوريا من احتجاجات ضد النظام».
في المقابل، نقلت وكالة الأنباء السورية (سانا)، عن مدير مستشفى الشهيد ممدوح أباظة في القنيطرة، علي كنعان، قوله إن الشهيدين اللذين وصلا إلى المستشفى، أحمد المدني وبشار علي الشهابي، من مخيم اليرموك للفلسطينيين في دمشق، قد استشهدا جراء اعتداء قوات الاحتلال الإسرائيلي عليهما بالرصاص الحي، موضحاً أن المدني وعمره 18 عاماً استشهد جراء إصابته برصاصة في القلب، بينما استشهد الشهابي نتيجة إصابته برصاصة في الوجه، وهو في العقد الرابع من العمر.
وتحدث عن إصابة 32 آخرين برصاص الاحتلال، تراوحت جروحهم بين الشديدة والمتوسطة، خمسة منهم بحالة خطرة، وثمانية آخرون في غرف العمليات، مشيراً إلى أن 84 آخرين أصيبوا بالاختناق جراء إطلاق الاحتلال الغازات المسيلة للدموع. وفي السياق، شهدت منطقة عين التينة المقابلة لبلدة مجدل شمس المحتلة في سفوح جبل الشيخ الشرقية، مهرجاناً خطابياً إحياءً للذكرى الثالثة والستين لنكبة الشعب الفلسطيني.
ودانت سوريا «الأنشطة الإجرامية» لإسرائيل في مرتفعات الجولان والأراضي الفلسطينية وجنوب لبنان.
ونقلت وكالة «سانا» عن وزارة الخارجية دعوتها المجتمع الدولي الى تحميل إسرائيل المسؤولية عن هذه الحوادث.
(سانا، أ ف ب، يو بي آي، الأخبار)