اختار دوغلاس ج. ديفيس اختصاصاً غريباً، في دراساته وأبحاثه الميدانية، هو «تاريخ الموت» حتى أصبح حجّة فيه. هذا الاختصاص الذي ينطوي على تداخل فروع معرفية مختلفة مثل الأنثروبولوجيا، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والفقه، واللاهوت، والآداب، والأساطير. لن نستغرب إذاً، أن يشكر في مقدمته لكتابه «الوجيز في تاريخ الموت» (الهيئة العامة السورية للكتاب، ترجمة محمود منقذ الهاشمي) المسؤولين عن مواقع «المحارق» التي زارها، في أكثر من مكان في العالم، والاطلاع على مراحل حرق الجثث عن كثب. علاقة المؤرخ والأنثروبولوجي الأميركي بموضوعة الموت قديمة، إذ سبق وأنجز كتابين في هذا السياق، هما «إعادة استخدام القبور القديمة» (1995)، و»الموت طقساً ومعتقداً» (2002)، فيما يرصد في هذا الكتاب الذي صدر بالإنكليزية عام 2005، مفهوم الموت في تاريخ الإنسانية والمواقف القديمة والحديثة منه، وما ينطوي عليه ذلك كلّه من أمل في الحياة.
ملحمة جلجامش، حكاية نموذجية أولى عن مقاومة الفناء، ومحاولة اكتشاف سرّ الحياة الأبدية، في مغامرات متتابعة، إلى أن يُكافأ جلجامش بحصوله على «عشبة الخلود»، أو «نبتة نبض القلب» في ترجمةٍ أخرى، لكن أفعى ستسرق النبتة خلال رحلة الإياب إلى أوروك، فيفقد الأمل في الخلود، وإن اكتسب حكمةً إضافية في معنى الخلود. أما «سِفر التكوين» فيصوغ أسطورة الخلق، في مغامرة آدم وحواء، من موقع العقاب، حين يأكلا التفاحة، فيطردهما الرب من الجنّة، وإذا بالموت هو نتيجة لعصيان الأوامر الإلهية. وتكتمل أضلاع المثلث بحياة يسوع الناصري في إظهار فكرة «بعث الموتى»، والاعتقاد بأن الألم يُمكن أن يبطل مفعول الخطيئة، و»يرمّم العلاقة الممزَّقة مع الرب». معتقدات الموت إذاً، سواء أكانت على شكل مسرود أسطوري، أم عقيدة لاهوتية، أم تأمل فلسفي، تساعد على تفسير الحياة ذاتها، وهو ما نجده في كل المعتقدات الدينية القديمة، من دون أن نهمل قوة «فكرة الأمل»، وذلك عن طريق الاعتقاد بنوع من الحياة بعد الموت. ويرى دوغلاس ديفيس أن الموت يواجهنا بأشكال ودرجات مختلفة تبدأ من «موت الآخرين»، مروراً بـ «الإدراك الشخصي للموت»، و»الموت الفعلي» متكئاً على معطيات التاريخ والفلسفة واللاهوت والفنون، في فهم أسباب الفناء من جهة، ومقاومة الموت بالكلمات، أو عبر اللغة، كي «لا تكون للموت الكلمة الأخيرة»، من جهةٍ ثانية. هكذا تتناسل مفردات مثل «الأسى»، و»الفقدان»، و»الفجيعة» بصحبة مدوّنة الموت، قبل أن تجد الأديان حلولاً سحرية لهذه المعضلة بالفردوس الموعود، ما يمنح الأحياء بعض الطمأنينة بوجود التواصل الروحي مع الموتى. في «إزاحة الموتى» يشرح هذا المؤرخ ديناميات طقوس الموت والأفكار التي ترافقها عن الروح والمصير البشري، وأصناف الشعائر المأتمية، وشكل الجنازة، وطرق إزاحة الموتى جسدياً، سواءً عن طريق الدفن، أم بحرق الجثّة، كمحصلة لتحولّات واضحة في التفكير الدنيوي. لقد قلّلت الكنيسة البروتستانية مثلاً، اهتمامها بالآخرة إلى حدٍّ كبير، فنادراً ما يُذكر الجحيم، إذا لم نقل أنه مهمل عملياً، ذلك أن «كرامة الميت» باتت محورية أكثر، كنوع من الاحترام الذي كان يلقاه في الحياة، كما طرح «اقتصاد السوق» في مجتمعات الوفرة «أسلوب الموت» بموازاة «أسلوب الحياة».

يرى أن الفنون وسعت حجم الأمل في الاستجابة الإنسانية لهذا الشرط والتغلّب على الفجيعة
وقد أدت هذه التبدلات إلى ظهور عادة حرق الجثث بتأثير الثورة الصناعية واكتظاظ المقابر في المدن الكبرى، بالإضافة إلى ما خلفته الحروب من موتى بالجملة، وهذا ما أدى إلى نشوء شكل جديد للعلاقة بين الفرد والمجتمع، و»دلّ على شكل للعلمنة، في أن السلطة الكهنوتية لم تعد تمتدُّ إلى رفات الموتى كما كانت تمتد عندما كانت الأجساد تُدفن في أفنية الكنائس أو المقابر بعد طقوس دينية مناسبة». الروح الاستهلاكية التي عزّزها اقتصاد السوق، أتاحت ظهور شركات متخصّصة في حرق أو دفن الموتى، أو حتى تجميد الأجساد التي ماتت من مرضٍ عضال، بقصد التكيّف الإنساني مع الموت، ومجابهة النظرة الدينية بفكرة روحانية تستند على معطيات الهندسة الوراثية، والبيئية، والتطوّر العلمي، في تكوين هوية إنسانية لمستقبل الكوكب، وتالياً الأمل بـ «الخلود الإيكولوجي». من ضفةٍ أخرى، يرى دوغلاس ديفيس أن الفنون البصرية والأدب والموسيقى أحبطت الموت في امتلاكها الكلمة النهائية وتوسيع حجم الأمل في الاستجابة الإنسانية لشرط الموت والتغلّب على الفجيعة. نرى ذلك في «الكوميديا الإلهية» لدانتي، و»الفردوس المفقود» لميلتون، وموسيقى «المسيح» لهاندل، بالإضافة إلى عشرات الأعمال التشكيلية، والتماثيل، والفوتوغرافيا المتعلّقة بالموتى. هذه الأعمال وسواها، أدت دوراً مهماً في تاريخ التأمل الإنساني للموت، وصولاً إلى قرننا الحالي الذي رسّخ اعتقاداً لدى شريحة واسعة من البشر بطرد ألم الفراق، والإنصات إلى «بهجة العيش» كما في أغنية شعبية قديمة ألّفها إوان ماكول. وتالياً، فإن «تاريخ الموت هو في الوقت ذاته تاريخ للأمل»، وذلك بتحويل فكرة الأمل المجرّدة إلى عاطفة محسوسة. هناك محطات أخرى يتوقف عندها هذا المؤرخ الرصين، مثل أهمية أماكن الذكرى، وأطياف الخوف من الموت، والموت في الحرب، والإبادة العرقية، والكوارث، والانتحار.