«ماتريوشكا»، هي واحدة من ألعاب الدمى الروسية التقليدية. مصمّمة من مجموعة من الدمى المجوّفة، التي تحتوي منها الكبيرة الصغيرة، ودائماً تنتهي بدمية خشبية أصغر. كانت اللعبة قد اخترعت من قبيل التسلية، لكنها أخذت بعداً سياسياً في العقود الأخيرة، وصارت ترمز الى عهود سياسية. وعلى سبيل المثال، هناك مجموعة خاصة بحقبة رئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين، تبدأ الكبيرة به، وتنتهي الصغيرة برئيس الجمهورية ديمتري مدفيديف، وما بينهما يتناوب كل الرجالات الذين استعملهم بوتين قبل أن يصل إلى قاع اللعبة والدمية الأصغر مدفيديف.
الرئيس اليمني من مدمني هذه اللعبة، وعادة ما يطبقها في ما يخص رجال الحكم، ومناورات السياسة، ويحلو له أن يشبهها بالبصلة، التي كلما نزع منها قشراً كان هناك قشر آخر. وفي ما يخص السياسة، يلجأ عادة إلى تغليف موقفه، ويتركه كالوعاء الكبير الذي يمكنه أن يتحول الى بحر من التفاصيل. يقدم مبادرة برّاقة في الشكل، ثم يترك للآخرين الغوص في رمال التفاصيل. وفي كل الأزمات الكبرى التي واجهها حكمه، فإنه نادراً ما رفض عرضاً أو مبادرة. إذا كان يخوض حرباً، وعرض عليه وقف إطلاق النار فهو يوافق، لكنه يستمر في الحرب سواء كان خاسراً أو رابحاً، والأمر ذاته بالنسبة إلى الأزمات السياسية، فكلما طرحت عليه مبادرة للحل قبِلها. على الدوام، كان يترك لنفسه هامشاً يناور فيه. وتجلّت هذه الاستراتيجية في صورة واضحة سنة 1993 خلال الأزمة مع شريكه في الوحدة الرئيس الجنوبي علي سالم البيض. فهو قبِل بمشروع الحل الذي تمثّل في «وثيقة العهد والاتفاق»، وذهب الى الأردن في شباط 1994 للتوقيع عليها، لكنه عاد وأشعل الحرب عليها، ووضع خصومه في الزاوية وأخرجهم من البلد بتهمة الانفصال، وأعطى لنفسه فضل حماية الوحدة.
يناور صالح اليوم على الأرض نفسها، فهو من جهة قبِل مبادرة تنحّيه عن السلطة، ومن جهة ثانية جرّ الأفرقاء الآخرين إلى لعبة تفاوض توصل إلى بقائه في الحكم. وفي كل يوم، يخرج صباحاً من الباب ثم يعود مساء من النافذة. يلعب بمهارة الحاوي الذي يدوّخ الخصوم والوسطاء، يضعهم في دوامة رواح ومجيء حتى يفقدوا صبرهم. لم يقل إنه لن يترك الحكم، ولم يصدر عنه أي موقف رفض لمبادرة من المبادرات التي طرحت من أجل انتقال السلطة سلمياً، حتى أنه طلب تفاصيل كاملة بالآليات التي تشمل كيفية نقل صلاحياته في الشكل والمضمون، وحدد المهلة الزمنية والضمانات، واختار المكان المناسب لإقامته بعد رحيله. لكن حين آن أوان الخطوات التنفيذية، فإنه أعاد الموقف الى نقطة الصفر. وآخر محاولة جرت يوم أول من أمس، فقد كان مقرراً أن تستضيف الرياض يوم أمس وفدين يمنيين، أحدهما يمثل صالح، والآخر عن أحزاب المعارضة الممثلة في «اللقاء المشترك». كان من المنتظر أن يوقّع الطرفان على نصّ المبادرة التي تقدمت بها ورعتها دول مجلس التعاون الخليجي، لكن وفد الحكم اعترض في اللحظة الأخيرة وطلب التأجيل حتى الأسبوع المقبل، وخرج صالح بتصريح يعيد خلط الأوراق مرة أخرى، وفحواه أنه لن يتنازل عن الحكم لأنه يمثل الشرعية الدستورية، ومبرره أنه جاء الى الحكم عن طريق صناديق الاقتراع، لذا لن يتنازل عنه إلا عبر هذا الطريق. ومعنى ذلك أنه سيبقى في السلطة الى حين إجراء انتخابات رئاسية، وحتى هذا الأمر غير واضح ويخضع لأكثر من تفسير واجتهاد. فالمبادرة الخليجية تقول بتنحّي صالح ونقل صلاحياته الى نائبه، بانتظار إجراء انتخابات رئاسية جديدة، وهنا يجري تداول تفسيرين. الأول من طرف المعارضة، التي تترجم مسألة التنحي بالرحيل النهائي. والثاني من طرف صالح الذي يترجم التنحي بنقل الصلاحيات، والبقاء في منصبه رئيساً حتى إتمام ولايته الحالية التي تنتهي في سنة 2013، ويشترط الرئيس لذلك أمرين: الأول هو أن يختار هو النائب الذي سينقل صلاحياته له. والثاني هو فض الاعتصامات الاحتجاجية في كافة أنحاء اليمن.
منذ أن طرحت مسألة التنحّي، اختار الرئيس اليمني الحل المصري، الذي تدرّج على مرحلتين، الأولى هي تعيين الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك عمر سليمان نائباً له، والثانية هي نقل صلاحياته الى النائب. وكان هدف مبارك أن يبقى رئيساً يدير البلاد من خلال عمر سليمان، لكن ضغط الشارع أجبره مع سليمان على الرحيل.
يريد صالح أن يوقف الثورة اليمنية عند حد بقائه في سدة الرئاسة والتنازل في صورة شكلية عن صلاحياته، مقابل تأليف حكومة من المعارضة، وهو لا يكتفي عموماً بذلك، فقد وضع في الاعتبار مسألة ضغط الشارع، وهو يحتفظ بهذه الورقة الى لحظة المواجهة المباشرة مع المحتجين. ونقل مستشاره عبد الكريم الأرياني مضمون تفسير صالح للتنحي الى اجتماع أبو ظبي قبل أسبوعين، وأبلغ وزراء خارجية التعاون أن أقصى ما يمكن أن يقبله الرئيس من تنازلات هو أن يكون رئيساً شرفياً، على أن تقود البلد حكومة من المعارضة، وضرب الأرياني مثالاً على ذلك صيغة حكم الملكية في إسبانيا.
يحاول صالح أن يبعد عن نفسه شبح ضغط الشارع، وهو يعرف أن مربط الأزمة هنا، وما مناوراته المستمرة منذ شهرين إلا في إطار مساعيه لتنفيس الحالة الاحتجاجية العامة. إن هدفه الرئيسي هو إعادة الشباب المعتصمين الى بيوتهم. وقد جرّب وسائل عدة، لكنها فشلت جميعاً. لجأ في البداية الى إنزال أنصاره إلى الشارع، قبل أن تكبر الحركة الاحتجاجية، وكان يعوّل على أن أنصاره قادرون على طرد المعارضين من الشارع، كما حصل في إيران بعد الانتخابات الرئاسية في حزيران سنة 2009، ولم يدرك سبب نجاح هذه الخطة في إيران وفشلها في اليمن. والفارق هنا أن المستفيدين من الحكم في الشارع الإيراني أكثر من المتضررين، وذلك عكس ما هو عليه الوضع في الشارع اليمني، لذا سرعان ما خسر هذا الرهان وتحوّل الشارع بكليّته ضده، وصار عاجزاً عن حشد مناصرين من دون مكافآت مالية.
والوسيلة الثانية هي القوة، وجرب ذلك على نحو تدريجي، لم يفرّط بالعنف أو يضرب في البداية بشدة، وتلافى المناطق الحساسة، فاختار عدن ليبطش ويوصل رسالة دموية، لكن هذه الرسالة لم تترجم لمصلحته، وتصاعدت الاعتصامات في بقية المدن، وبعد فترة وجيزة، انتقل إلى استخدام أسلحة كغاز الأعصاب، ظنّاً منه أن ذلك يجعل المتظاهرين يترددون في الاعتصام، لكن هذا السلاح لم يُجدِ، وارتكب في 18 آذار مذبحة في ساحة التغيير في صنعاء، وكانت حساباته تفيد بأن الاعتصام سوف ينتهي، لكن المتظاهرين زادوا إصراراً، واتسعت دائرة الاعتصامات ونزلت المرأة بقوة الى الساحات.
أما الوسيلة الثالثة فهي فتح النار على اللقاء المشترك. وأراد صالح من وراء ذلك أمرين: الأول أن يتجاهل الشارع، ويختار خصماً يشتبك معه. والثاني أن يكسب وقتاً للمناورة. وسار في الخيار الأول على نحو بارع، فهو في كل يوم يصبّ ثورة غضبه على اللقاء المشترك الذي حوّله الى كيس ملاكمة يتدرب عليه بانتظار المواجهة المصيرية. ومن خلال اختيار هذا الخصم، أراد إيهام الأطراف الخارجية بأنه يقبل بالمعارضة والتعددية، لذا فإنه مستعد لتسليم البلد لهؤلاء المعارضين، لكنه من خلال هذه المناورة استطاع أن يكشف كافة الأوراق والمشاريع والخطط المطروحة لرحيله. ولو لم يكن اللقاء المشترك موجوداً لما برر النظام لنفسه أن يكسب كل هذا الوقت، فهو كان أمام أحد أمرين، إما الرحيل أو استخدام القوة، وهذا هو السؤال المطروح اليوم.
يحدد الاتفاق، الذي من المقرر أن يوقّع يوم الاثنين المقبل، رحيل الرئيس اليمني بعد شهر، أي في مطلع حزيران، والآلية هي أن يقدّم الرئيس استقالته أمام مجلس النواب، وتنقل صلاحياته الى نائبه، الذي يمهّد لانتخابات رئاسية في غضون شهرين. والى أن يحين أوان الاستقالة، يكسب صالح شهراً إضافيّاً، يستطيع خلاله أن يعود الى المناورة من جديد، وأن يلعب ورقة إنهاء الاعتصام، فهو سبق له أن ربط موافقته على المبادرة الخليجية بفضّ الاعتصام، وسيطلب من الحكومة القيام بذلك، وسيحاول أن يدفعها للجوء الى القوة، أو الإقدام على هذا الخيار من تلقاء نفسه، لكن باسم الحكومة، وبأدواته العسكرية المباشرة من حرس جمهوري وحرس خاص ووحدات خاصة وأمن مركزي. وترى أوساط يمنية مطّلعة أن من غير المستبعد أن يجرّب صالح سلاح القوة، وتدلّل الأوساط على ذلك بحركة تنقلات لطائرات وقطعات مدرعة جرت الأسبوع الماضي، كما أنه يلاحظ أن الحرس الجمهوري صعّد من عمليات القتل في تعز وصنعاء وعدن، وتشير التحركات والتصرفات العسكرية الى أن صالح سائر الى استخدام القوة، وليس هناك إشارة الى أنه سيعمد الى تسليم السلطة ويرحل معه أولاده وأبناء أشقائه وأقاربه ممن يتولّون مسؤولية قيادة الوحدات العسكرية والأجهزة الأمنية.
وتظل الورقة الأهم التي يحتفظ بها صالح هي الاستقالة أمام مجلس النواب، وهناك تقديرات بأن العملية لن تتم في صيغة استقالة نهائية، بل سيُترك للمجلس أمر القبول أو الرفض. وفي حال رفض المجلس، فإن صالح يكون بمنأى عن أيّ مسؤولية، وسيستمر في ممارسة مهماته تحت ذريعة أن مجلس النواب رفض الاستقالة، وساعتها ستعود الأمور الى نقطة الصفر.
الأزمة مستمرة والرئيس صالح باقً في منصبه ما دام قادراً على إدارة خيوط اللعبة من المنطقة المحاصر فيها (القصر الجمهوري)، وهي نحو 10 كيلومترات مربّعة. وما لم تحصل تطوّرات دراماتيكيّة، فإن الرتابة آخذة بالتسرب الى الثورة والإحباط الى نفوس الشباب المعتصمين.