يوماً بعد يوم تتضح الفجوة السحيقة في القراءات حول ما سُمّي المبادرة الرئاسية لسعد الحريري. فهي لم تفجّر الاصطفافات السياسية داخل الفريق الواحد وحسب. بل الأهم أنها فسخت الفهم السياسي لحقيقة المواقف الداخلية والإقليمية حيال الأزمة اللبنانية.
الفريق الحريري لا يزال يصرّ، في العلن على الأقل، وبعيداً عن كلام الخيبة الهامسة في مطاعم وسط بيروت الفاخرة، على أن مبادرته سائرة نحو التنفيذ، شاء من شاء و"أبا من أبا" (كذا)، كما كتب أحد مريديها على لافتة ترحيبية. فيما الفريق الآخر لا يزال عند موقفه بأن الخطوة معتورة وأن الحريري نفسه تصرّف بخفّة، أدّت إلى نسف ما كاد أن يكون فرصة له ولفريقه في تعويض بعض ما فات. غير أن الأهم من الكلام حول الطرح واحتمالاته المستقبلية، هو المعطيات التي يقدمها كل من الفريقين حول الأوضاع الخارجية الدافعة في هذا الاتجاه أو عكسه.
فمن جهة الفريق الحريري، يصرّ منظّروه على الجزم بأن خطوة الرجل المنفي قسراً، لم تأت من عدم. ولا من حسابات مالية أو شخصية كما يسوّق خصومه. ولا هي خصوصاً معزولة عن سياق سياسي إقليمي طويل عريض، يشمل المشرق برمّته وصولاً حتى شمال أفريقيا. يؤكد الحريريون أن ما أقدم عليه زعيمهم، كان خطوة منسّقة بدقّة وبالتفصيل مع كل القوى العظمى على الكرة الأرضية. على خلفية أنه بات في على وجه الأرض اليوم، معسكران اثنان لا ثالث لهما ولا وسط بينهما. أولاً معسكر الإرهاب الممثل بـ "داعش" ومن مثلها. وثانياً معسكر الحرب على "داعش" وأخواتها. وأن هذا الاصطفاف الجديد أعاد خلط الأوراق العالمية والإقليمية كلها. فباتت واشنطن وموسكو وطهران والرياض، وطبعاً ملحقات هذه العواصم كافة، في صف واحد. وأن هذا المعسكر أعلن حربه الشاملة على الإرهابيين. وفي سياق هذه الحرب قرّر قادة هذا المعسكر تطبيق خطوات تمهيدية ضرورية، تحت عنوان تصفية الحروب التنفيسية أو إنهاء معاركهم بالواسطة التي كانوا قد أشعلوها قبل ولادة حدث "داعش". ولذلك، بدأ زمن التسويات: اليمن ذاهب إلى وقف لإطلاق النار. ليبيا ذاهبة إلى تنفيذ اتفاق مصالحة بين متحاربيها. وسوريا وضعت على السكة نفسها. والسكّة المذكورة هي ما دفعت جون كيري إلى اتخاذ قرار، ودوماً بالتوافق مع قادة الحلف الكوني الجديد، قضى بنقل "فيينا 3" من باريس إلى نيويورك. لا لشيء إلا لأن المسألة قد حُسمت بين واشنطن وموسكو على كيفية فرض الحل في دمشق: يذهب أهل فيينا إلى مانهاتن بعد أيام، فيتفقوا على آلية تنفيذية للتصوّر الأميركي ــــ الروسي. بعدها تتسلم واشنطن الرئاسة الدورية لمجلس الأمن. فتتولى إخراج قرار تحت الفصل السابع بوقف إطلاق النار في سوريا. وتنتهي الأزمة هناك... يبتسم أصحاب الأسرار الحريرية عند هذا المفصل، قبل أن يتابعوا قراءتهم: من هنا جاءت الفكرة بما يشبه الإيعاز إلى الحريري: إذهب وقم بخطوتك. الطريق أمامها سالكة وآمنة. يرفض الحريريون أي مناقشة في التفاصيل. كما أي حوار حول احتمالات فرضياتهم الكثيرة في قراءتهم المذكورة. يكتفون بالجزم اليقيني القاطع: لقد اتخذ القرار. قد يتأخر أسابيع. لكنه في النهاية سينفذ. وكل من يعترضه سيتم سحقه. تماماً كما حصل زمن الطائف!
يبتسم أركان الفريق المقابل للحريري حيال تلك القراءة. يعتبرونها ضرباً من التخيّل الواهم لا غير. لا يهتمون بالردّ على وقائعها ولا بتفنيد مندرجاتها ولا بإفشاء ما يعتبرونه القراءة المضادة والصحيحة، بكل حيثياتها ووقائعها. يكتفي هؤلاء للتعبير عن اطمئنانهم بالسؤال البسيط التالي: إذا كان صحيحاً أن اتفاقاً شاملاً كهذا قد تم بين طهران والرياض كما بين موسكو وواشنطن. وبمعزل عن كل المؤشرات المناقضة له على الأرض، لكن من يفترض أن يعرف به من الجانبين الإيراني والروسي قبل الآخر، نحن أم الحريري؟ ولنفترض أنه نوقش مع طهران وموسكو، فهل تتعامل هاتان العاصمتان معنا على قاعدة الإمرة والتنفيذ؟ كل هذا أضغاث أحلام. هذا فضلاً عن واقع موازين القوى الذي بات معروفاً على جبهات الحرب الشاملة، من اليمن إلى سوريا. لكن يكفي لتكذيب كل ما يروى هاتان الواقعتان: أولاً أن موسكو لم تأت على ذكر مبادرة الحريري التي يروون أنها انطلقت قبل أشهر، إلا يوم الجمعة الماضي، في 11 كانون الأول الجاري. حين أرسل مساعد وزير الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف، إلى سفير بلاده في طهران، ليفان جاغاريان، يطلب منه سؤال المسؤولين الإيرانيين عن مدى معرفتهم بما يسمى مبادرة رئاسية لسعد الحريري! وفي اليوم التالي بالذات، أي السبت الماضي في 12 الجاري، أرسل وزير الخارجية الفرنسية لوران فابيوس إلى سفير بلاده لدى إيران أيضاً، برونو فوشيه، يسأله طلب موعد من مساعد وزير الخارجية الإيرانية حسين أمير عبد اللهيان، للاستفسار منه حول مدى معرفة إدارته بما سمي المبادرة الحريرية ذاتها. علماً أن السفيرين سمعا الجواب نفسه: رئاسة الجمهورية اللبنانية مسألة تبحث في بيروت. مع تقدير إيراني لا غير، أنه وفق معلومات طهران، لا يزال الموقف الثابت من هذه المسألة يختصره حلف شخصين اثنين: حسن نصرالله وميشال عون!
ماذا يعني هذا التناقض المطلق في المعطيات؟ بكل بساطة هو انفلاع وجداني وسلوكي بين منطقين: واحد يقول إن سعد الحريري هو من سيأتي بالرئيس المقبل. وآخر يقول إن الرئيس المقبل هو من يمكن أن يأتي بالحريري. أيهما أصح؟ من يعش ير!