لم يكن تجديد الرئيس اليمني، علي عبد الله صالح الدعوة إلى معارضيه بالرحيل ووصفهم بالمأزومين والمأجورين والعملاء بالمستغرب، بعدما نجح في إعادة خلط الأوراق، منحّياً المعارضة عن المشهد السياسي ولو مؤقتاً، ومعيداً تقديم نفسه ضامناً وحيداً للاستقرار في اليمن، مستفيداً من أخطاء خصومه السياسيين، ومجيداً العزف على وتر الهواجس الغربية من نفوذ تنظيم «القاعدة» وتدهور الوضع الأمني في البلاد.
وبعدما كان صالح طوال الأسابيع الماضية في موقع الدفاع عن النفس، تمكّن من الانتقال إلى موقع الهجوم. أخرج أنصاره إلى الشارع بأعداد كبيرة، مؤكداً أن جزءاً من الشعب لا يزال يدعمه.
كذلك أعاد صالح ترتيب أوراق حزب المؤتمر الشعبي الحاكم، معلناً أن من تخلى من النواب والأعضاء الحزبيين عنه لا يعني الكثير، ما دام قادراً على إحكام سيطرته على مجلس النواب، وإصدار ما يشاء من قوانين. كذلك أسهمت موجة الاستقالات الواسعة من الحزب الحاكم، وتحديداً بعد مجزرة جمعة الإنذار، في تحصين النظام، من وجهة نظر صالح، أكثر من إضعافه، بعدما ضمن أنّ من استمر حتى الآن إلى جانبه لن يتخلى عنه لاحقاً مهما بلغت حدة المعركة السياسية، وحتى العسكرية.
وعلى صعيد المؤسسة العسكرية، حاول صالح الظهور غير آبه بالانشقاقات التي تحدث، مشيراً إلى أنها ثانوية. وفي وقت لا يزال يعجز فيه عن تحويل تهديده بأن اللواء «علي محسن الأحمر مجرد موظف يمكن إقالته بقرار» إلى أمر واقع، سرّب موقع وزارة الدفاع اليمنية « 26 سبتمبر نت» خبراً يتضمن إقالة اثنين من كبار ضباط الجيش، محمد علي محسن الأحمر، وثابت جواس، انتقاماً منهما لانضمامهما إلى الثورة، في محاولة للتأكيد أن كل من يتجرأ من العسكريين على الخروج عن طاعة النظام سيلقى مصيراً مماثلاً. كذلك، نجح صالح في إيصال رسالة واضحة إلى الغرب، مفادها أن المعارضة الممثلة بأحزاب اللقاء المشترك، غير ممثّلة شعبياً بعدما فشلت في أن تزحف بأنصارها إلى القصر الرئاسي حسب ما توعدت يوم الجمعة الماضي، وأنه على الرغم من ذلك سيواصل اتّباع سياسة اليد الممدودة تجاهها.
في موازاة ذلك، نجح صالح في استدراج المعارضة إلى كشف أوراقها أمامه، خلال اللقاء الذي جرى بحضور السفير الأميركي في منزل عبد ربه منصور هادي نائب الرئيس قبل أيام، وأيقن ضعفها وتخبطها، ما دفعه إلى شن هجوم جديد عليها، وصولاً إلى حد إعطاء نفسه الحق باتهامها بأن «أياديها قد تشابكت مع الحوثيين والقاعدة».
ويتعمد صالح منذ بدء الأزمة اليمنية، في مختلف خطاباته، التركيز على دور «القاعدة» ومخاطرها في اليمن، إدراكاً منه لحساسية الموقف الأميركي تجاه الفرع اليمني من التنظيم، فيما جاء الموقف الأميركي غير الحاسم من التطورات اليمنية ليعطي صالح دفعاً إضافياً، بعدما تيقن أن الولايات المتحدة، لم تحسم بعد خيارها بالبحث عن بديل ثانٍ لصالح من قلب النظام، ما يعني من وجهة نظره أن الفرصة ما زالت سانحة لمحاولة استعادة زمام المبادرة.
ومن هذا المنطلق، سعى الرئيس اليمني منذ أيام إلى التشديد على فكرة أن معركته اليوم لا تنحصر في المنادين بالإصلاح، ما دامت مبادرته تفي بمطالبهم، بل هي مع أطراف محددين هدفهم قضم سلطة الدولة، وفي مقدمتهم الحوثيون في الشمال، الذين عمدوا إلى استغلال فرصة الاحتجاجات للسيطرة سيطرة كاملة على محافظة صعدة، مثيراً بذلك ليس فقط الهواجس الأميركية بل كذلك الإقليمية أيضاً، وتحديداً السعودية، التي انخرطت في مواجهة مباشرة مع الحوثيين، خلال الحرب السادسة.
والأهم من ذلك، لجأ صالح إلى سيناريو كارثي تحت شعار «إما أنا أو الفوضى»، متعمداً إحداث انفلات أمني في عدد من المحافظات التي يشتبه بوجود عناصر من القاعدة فيها، لإيهام الغرب بأن الاحتجاجات اذا ما استمرت فستؤدي إلى نشر الفوضى، فيما الخيار الوحيد لدرء خطر المسلحين يتمثل في الحفاظ على موقعه الرئاسي.
وجاء الإعلان المفاجئ والمشبوه أمس عن «إمارة أبين الإسلاميّة» ليستكمل خطة الانفلات الأمني التي بدأت قبل أيام بانسحابات متكررة لعناصر من الجيش من مواقعهم في الجنوب وتسليمها، بما تحويه من أسلحة ثقيلة، بما في ذلك دبابات، إلى مسلّحين مجهولين من دون مقاومة تذكر، حتى غدا مشهد أشخاص يتجولون في الشوارع يتصدر الصورة الآتية من اليمن، في محاولة لحجب الأنظار عن المحتجين الذين يواصلون اعتصاماتهم في ساحة التغيير.