أنقرة | يصرّ حكام أنقرة على أنّ العامل المسيِّر لدبلوماسية بلادهم إزاء ثورات العرب كان ولا يزال وسيبقى معتمداً على معيار أساس يتلخَّص في ثلاثيّ مقدَّس: التبنّي الكامل لشعارات الشعوب في الحرية والخبز والديموقراطية، وعدم السماح باستعمار غربي جديد من خلال شبح تدخُّل أوروبا وأميركا في مسار الحركة الشعبية، والمحافظة على البنى التحتية الفقيرة أصلاً للدول المهدَّدة. ثلاثي اختصره مصدر رفيع المستوى في وزارة الخارجية التركية، في حديث إلى «الأخبار»، على النحو الآتي: «ما نطلبه لشعبنا على صعيد الحريات الديموقراطية، نطلبه لكافة شعوب العالم. إنها مسألة أخلاقية بالنسبة إلينا». هي الأخلاق نفسها التي لا يتردد وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو في إدخالها في صلب أي خطاب أو تصريح له، مثلما أدخلها أساساً في فصول كتابه المرجعي «العمق الاستراتيجي». وعن قراءة المصدر في وزارة الخارجية لمسار عدوى الثورات العربية، يقول إن «أياً من الحكام الديكتاتوريين لن يتمكن من النجاة من هذه الرياح، وكل من يحاول مقاومتها، سيخسر». أما عن اختلاف الموقف التركي من مجريات الثورات الشعبية، فيشدّد على أنه «يجب ألا ننسى حقيقة أن لكل دولة دينامياتها وخصوصياتها التي يجب أخذها في الاعتبار»، كخصوصية دور الجيش في مصر مثلاً. وهنا يشير إلى إحدى الأولويات التركية في التعاطي مع الثورات الجارية حالياً، والتي تُختصَر بهمّ مزمن في عدم تدمير المؤسسات القليلة الباقية للدول العربية، وأن يجري التغيير وفق أجندة محلية صرفة من دون تدخل أجنبي. وقبل أن ينتقل المصدر المسؤول إلى تفصيل التغير التدريجي في موقف بلاده من الشأن الليبي، يكشف أن أنقرة لطالما نصحت أصدقاءها بالإسراع في القيام بإصلاحات حقيقية، بالتزامن مع تحميل جزء كبير من المسؤولية للقوى الغربية، على قاعدة أنّ ما يشهده العالم العربي هو الفصل الثالث من مسار عربي بدأ منذ عام 1992 في الجزائر ومرّ بالانتخابات الفلسطينية في أواخر عام 2006. وهنا يفصّل المصدر التركي كيف تفهم تركيا التواطؤ الغربي المعادي لنشوء ديموقراطية في العالم العربي: ففي البداية، صمت هذا الغرب عن إلغاء نتائج انتخابات الجزائر التي كانت ستأتي بجبهة الإنقاذ الإسلامية إلى الحكم، وعمّا تلاها من انقلابات أو شبه انقلابات ثبّت الجيش في نهايتها حليفه عبد العزيز بوتفليقة في الحكم. والفصل الثاني من التواطؤ ضد الديموقراطية العربية عبّر عنه رفض فوز حركة «حماس» في تلك الانتخابات الشهيرة. انطلاقاً من هذه التجارب الغربية السوداء، على أوروبا وأميركا أن تظلا حذرتين من إعطاء الانطباع بأنهما تساعدان المعارضات العربية. والنصيحة التركية الثانية للغرب، بحسب المصدر، كانت أن أي خطأ يرتكبه في سياق التعاطي مع الثورات العربية من شأنه تعميق النزاع بين الشرق والغرب جدياً. «لديكم فرصة تاريخية للتصالح مع شعوب المنطقة، فلا تفرّطوا بها». ويصل المصدر الدبلوماسي التركي إلى تشريح سياسة أنقرة إزاء الثورة الليبية. ويكاد المسؤول يعترف بأن المهادنة التي أعربت عنها تركيا إزاء نظام العقيد كانت تتعلق أساساً بمصلحة تركية مباشرة في ليبيا، إذ تمكّنت هذه المهادنة من إجلاء 30 ألف مواطن تركي يقيمون هناك من دون أن يلحق أي أذى بأحدهم. حتى إنّ التباهي التركي يصل إلى حد الغرور عند الحديث عن كيفية تمكّن فرق الإغاثة التركية من إجلاء 5000 من رعايا 57 دولة، من بينهم الولايات المتحدة التي وجدت نفسها مضطرة إلى تسوُّل المساعدة التركية في قضية تحرير الرهائن الأربعة لصحيفة «نيويورك تايمز»، ومواطنين آخرين حُوصروا بين النيران الليبية. وفي هذا السياق، لا يجد المسؤول التركي حرجاً في الاعتراف بأن مهادنة نظام القذافي كانت ضرورية «لحماية مواطنينا التي تبقى الأولوية الأهم في سياساتنا الخارجية كما الداخلية». ويستدرك سريعاً بأنّ هذا لا يعني «أنّنا لم نطلب من القذافي، خلال عمليات الإجلاء، أن يتنحّى عن الحكم. لقد طلبنا منه ذلك، لكن ليس بصوت مرتفع». ويوضح المسؤول أنه في المرحلة الثانية، اتصلت القيادة التركية بالمعارضة الليبية واستقبلت رموزاً منها، معترفاً بفشل وساطة كانت تحاول الاضطلاع بها بهدف منع حصول حمام دم في ليبيا. أما عن السجال الذي أثاره الموقف التركي المتردد إزاء القرار الدولي 1973 بشأن فرض حظر طيران فوق ليبيا، والسماح باتخاذ كافة الإجراءات لحماية المدنيين، وهو ما فُسِّر بقرار القصف الأجنبي على ليبيا، فينفي المسؤول التركي أن تكون تركيا قد ترددت في دعم القرار، لعلم أنقرة أن دعمها له كان ضرورياً ليُنظَر إليه كقرار شرعي من قبل شعوب المنطقة. ويكشف المسؤول الدبلوماسي التركي أن فرنسا «أفسدت الوضع سريعاً، باستعجالها القصف الجوي والبحري لليبيا بطريقة خاطئة». وينتهز المناسبة ليوجّه مجموعة أسئلة تشرح الامتعاض التركي إزاء الحملة العسكرية على ليبيا: إن كنتم تهدفون إلى فرض حظر جوي، فلماذا تقصفون الدبابات الليبية؟ لماذا تحاولون الهيمنة على قيادة الحملة العسكرية وتتخذون القرارات منفردين؟ ويتابع «صحيح أن الأوضاع على الأرض كانت طارئة، لكن حتى الأوضاع المماثلة تحتاج إلى تنسيق، ويجب أن تبقى تحت سلطة الأمم المتحدة». وهنا بيت القصيد في المعارضة التركية لقيادة حلف شمالي الأطلسي للعمليات الحربية، رغم أن تركيا عضو أساسي في الحلف. ويرى المسؤول نفسه أن تركيا، «بمعارضتها لقيادة الأطلسي لفجر الأوديسة، أنقذت شرف الحلف وسمعته»، وخصوصاً لدى الشعوب العربية والإسلامية. ولا يزال الموقف التركي على حاله في أنّ الحلف «قد يكون مفيداً في فرض حظر إدخال أسلحة إلى ليبيا وفي تقديم المساعدات الإنسانية إلى البلاد، وهي المهمات التي التزمت أنقرة بالمساهمة فيها حصراً، وهو ما بدأت بترجمته من خلال إرسالها 5 سفن حربية إلى المياه الإقليمية الليبية. ولأن المصالح هي الكلمة السحرية للسياسة الخارجية التركية، لا يتردد المسؤول في التذكير بأنّ تركيا موجودة في ليبيا منذ فترة طويلة. فالجماهيرية كانت أول دولة أجنبية تستثمر تركيا فيها، «وسنبقى فيها مهما حصل».