الثورة في مصر تفتّش عن صندوق أسود. ليس فقط من أجل معرفة ما دار في الساعات الأخيرة لنظام مبارك، ولا كيف انتقلت السلطة إلى المجلس العسكري، ولا حتى لماذا انحاز الجيش إلى الثورة، وأسقط الرئيس؟ أسرار مهمّة تشبع الفضول حول كيف كانت تحكم مصر؟ وكيف استطاع آخر جنرالات «الاستعمار الوطني» تحويلها إلى صحراء سياسية.لكنّ الأهمّ أن هذه الأسرار قد تكشف مكان القرص الفعّال الذي يدير ماكينة النظام، وهو ما لم تصل إليه الثورة بعد. كيف تحرّك النظام بعد كسر رقبته؟ أين قواه الحيوية؟ ماذا حدث بعد ١١ شباط حين طار مبارك وعائلته بمروحية الى شرم الشيخ؟ هل انتهت الثورة في اللحظة التي خرج فيها عمر سليمان بكامل تجهمه وعبوسه ليعلن تخلّي مبارك عن السلطة؟ هل استولى الجيش على السلطة بقوة الثورة لكن ليس بأوامرها، وأنه لا يزال يعمل بتفويض من الرئيس الغارق في مراراته على شاطئ البحر الأحمر؟ هل يشعر الجيش بالذنب لأنه أزاح جنراله الأخير في السلطة؟ هل يرى الجنرالات الملتفّون حول طاولة المجلس العسكري الدائرية أنّ خريف مبارك خريفهم ويبحثون عن ربيع من صنعهم؟ أم يرون أن رياح الثورة انتزعت الفرع الشرير وعليهم تطهير الشجرة الطيبة؟
1
الصندوق الأسود في مكان بعيد، غامض، والنظام ماكيناته دائرة، بإيقاع يربك الثورة التي سارت بقوة دفع كتالوج الأحلام في دولة يعيش فيها المصري بكرامة ويجد أولويات الحياة المحترمة: تعليم وعلاج وعمل. تكرّرت كلمة لدى كل من تحدّث عن دوافع الثورة: «... نحن نستحقّ أفضل ممّا نحن فيه».
وعي الثورة بمطالبها نما في الشارع، اتسعت المطالب كلما تزايد الشعور بالقوة والثقة بالنفس... ومحور المطالب في النهاية تجسّد في رغبة عارمة بإقامة «دولة» بعد سنوات من الحياة في «دولة تحت الإنشاء». ومنذ 1919 لم تتزحزح الدولة المدنية عن كونها «مشروعاً» لم يكتمل حتى الآن، تحت ألعاب وصراعات القصر وحزب الوفد، ومن بعدها مجموعة الضباط الأحرار والمجتمع، لم يكن هناك سوى إرادة الحكم، وهذا لا يصنع دولة ولا مؤسسات.
المؤسسات تصبح أشكالاً وهميّة، نماذج ورقية، يقف عليها كبير يختاره الرئيس، وحسب سطوة الكبير عند الرئيس أو في مواجهته، يكون تأثير المؤسسة ونفوذها.
إقطاع سياسي أكثر منه مؤسسات دولة، والفارق هنا كبير بين عبد الناصر ومبارك. ناصر ساحر يخرج من بين ضباط تموز، يوازن بين حكّام إقطاعياته، بمشروعية الجاذبية الجماهيرية، والأبوّة الحنونة، القادرة على صنع معجزات في مجالات محدّدة، لكنّها لم تستطع بناء الدولة.
مبارك تعامل بمنطق كبير الموظفين، ومؤسساته منزوعة الفاعلية لأنّها إقطاعيات يدير كلّاً منها موظف، نصف مستشار، لرئيس تحميه بيروقراطيته، وخلفيته في الإدارة العسكرية.
الدولة التي لم يكتمل إنشاؤها تآكلت. وامتصّت دمها وحوش مهووسة بالمال والسلطة. وحوش لا تشبع، ولا تكتفي من الثروات المنهوبة بغير حساب. الدولة تآكلت، بينما النظام له سراديب سرية يخزن فيها قرصه الفعّال ليعمل ويعمل ويعمل.
2
الجيش يحكم الآن، ولا يريد أن يقيم طويلاً بعيداً عن الثكن. هذا ما يقوله المجلس، وما تراه قطاعات مختلفة من قوى مشاركة في الثورة أو حولها بأنه «خدعة» لا بد من كشفها سريعاً. قد يكون هذا أحد أعراض مرض ينتشر بسرعة غريبة بعد 60 يوماً من الثورة، ويصاب به الحالمون بهستيريا لدى أي إشارة تذكّرهم بعصر مبارك، أو بصورة سوداء عن حكم الفاشية الدينية.
الموضوع أكبر من اكتئاب ما بعد الثورة، أو الخوف منه، إذ إنّ الذعر أصبح أسلوب عمل سياسي لمن لم يتعودوا ممارسة السياسة. السياسة لم تكن في مصر أكثر من سيارات إسعاف تنجد المصابين، أو قوافل محامين تهرول خلف المعتقلين، لم يكن على أجندة حزب سياسي أو حركة سرية أكثر من مناوشة الوضع القائم، أمّا تصور الوصول إلى السلطة، أو تأليف حكومة أو اختيار رئيس، فكان ضرباً من خيال يربك الجميع الآن عندما تحوّل إلى واقع وفي الشارع.
مثل أطفال يحلمون باللُعب، وعندما وجدوا أنفسهم في الملعب، أصابهم الذعر من أنهم سيلعبون فعلاً، وهم بلا خطة لعب ولا ثقة مبنيّة على خبرات سابقة بأنهم سيستمرون في الملعب. الخبرات القديمة كلها مريرة، وأورثت ثقلاً راسخاً من الانهزامية والشعور بأنّ «المباراة لن تكمل». ذاكرة سوداء لعمليات انقضاض على الديموقراطية، وبناء لم يتوقف لدولة القهر والبطش، بمؤسسات حديثة انحازت في لحظات عصيبة إلى التحرر من الاستعمار. فالشرطة شاركت في حرب فدائية على الاستعمار وعيدها القومي اختير احتفالاً بشهداء هذه الحرب، وهو نفسه يوم الثورة. أي أن المؤسسة التي أنشئت لتكون عنصراً من عناصر «حداثة وطنية»، ظلت حداثتها قشرة خارجية، أو بناءً منفصلاً عن دور في القمع والسيطرة إلى أن تحوّلت الشرطة الى «جهاز سياسي» يقود الدولة البوليسية. التحوّل إلى جهاز سياسي يفسّر أساطير خرجت بعد تفتت الطبقة الأولى من نظام مبارك.
الأساطير تقول إن حبيب العادلي كوّن تنظيماً سياسيّاً سريّاً بالتحالف مع مجموعات في حاشية مبارك وعائلته (جمال مبارك وأحمد عز)، هو تنظيم سياسي أعطى روح المافيا، التي حكم بها مبارك، بُعداً جديداً، إذ أصبحت «الدولة»، مع عجزها وتوحّشها، تدير الإجرام المنظّم، وتجيّش البلطجية، وتستدعي من مخازن الذاكرة كلّ الأساليب العتيقة في قهر الشخص، وتحويله إلى «مسخ خائف». هذه الأداة الأولى والرئيسية لاستمرار النظام، وتحويل الشعب الى عبيد لا مواطنين. تحوّل استغرق سنوات طويلة ممتدّة، ترسّخت فيها أسطورة أن الحاكم قدَر، وعلى العبيد الطاعة الإجبارية، وإلا فسيدخلون المسالخ. السياسة لم تكن هنا سوى الجسارة. جسارة التمرّد على القدر وكسر أطواق حديقة الحيوان الكبيرة التي يروَّض فيها الشعب. الجسارة ولدت الثورة، لكنها لم تتحوّل الى سياسة بعد.
الجمهور نزل إلى الملعب، لكنّه لا يمتلك خطة لعب ولم يكوّن فرقاً. والجيش هنا ليس في برنامجه إلا السيطرة. ومن هنا ولد الصدام بين الثورة والجيش.
3
الجيش سلطوي، مبنيّ على هيراركية الطاعة، والامتثال للأوامر، لهذا، مع أول صدامات مباشرة انتهت مرحلة القبلات «الجيش والشعب يد واحدة» الى مرحلة الحب المتشكك، أو المضطر إلى أن يركب مدرعة الجيش.
لم يكن أمام الجيش إلا تأييد الثورة بكسر رأس النظام، ولم يكن أمام الثورة لتكون ثورة إلا مساندة الجيش. التقت الثورة والجيش في لحظة تاريخية. الثورة من دون قوة والجيش هو المؤسسة الناجية من النظام. لا يزال جسدها موجوداً، وتاريخها مع الشعب عاطفي، بلا هزّات كبرى. الجيش يريد حماية النظام والدولة معاً، ومعهما الحفاظ على مصلحته بما هو مؤسسة لها موقع النواة الصلبة ولقادتها امتيازات مبررة عند شعب يحب الجيش محبة الأساطير الباقية من حداثة الدولة في مصر. أرادت الثورة أن يفتح الجيش كل صناديق النظام المغلقة، وينقّب عن الجزء المدفون من التمساح لحرقه. هكذا في ستين يوماً فقط أدارت الثورة معجزة التحوّل في الجيش من مؤسسة تمثل قلب النظام إلى كيان ثوري يهدم ويبني وفق هندسة «العيال بتوع التحرير».
الجيش اختبر قوة «الميدان» وحاول استيعابها، وفق تركيبة محافظة، لا تتخلّى بسهولة عن الوصاية الأبوية على الدولة والشعب. وصاية لا تبغي الحكم المباشر، كما يتوقع المتشائمون، ولا تسعى إلى تثوير الدولة كما يتمنى عشاق «الكاكي» ونواته الصلبة.
الجيش يريد دوراً تاريخياً ليبقى في مكانته، ويحافظ على مصالح المؤسسة، وفي الوقت نفسه يريد السيطرة. وهنا تظهر شراسته، شراسة ليست خبيرة في التعامل مع المزاج المدني، ولا محترفة في قمع الخروج عن التعليمات. الأوامر تصل وينفّذها أصحاب القبّعات الحمراء بطريقة عسكرية، أحادية، تصطاد المختلف، في الشكل أو الهيئة، أو الخارج عن الصف.
أصحاب القبّعات الحمراء اعتادوا قهر الفرد في ماكينة عنف جسدي ليذوب في الجسد الكبير الواحد، ابتداءً بقص الشعر ومروراً بحفلات إهانة ممنهجة لكسر الشخصية والانخراط في المجموع.
هكذا عندما صدرت الأوامر، اصطادت القبعات الحمراء كل الخارجين عن القطيع، لتحريرهم من شيطان الاختلاف والحرية، وضمّهم الى قطيع جديد. أوامر الجيش تخصّ كلها استعادة السيطرة، مهما كانت الفاتورة، فيُعتقل المصرّون على الاعتصام في الميدان، ويُلقى القبض على الثوار أصحاب الملامح الغريبة، ويقتحم الجيش حرم جامعة القاهرة ليفضّ اعتصام طلاب كلية إعلام ويفرض قانوناً أو مرسوماً حكومياً يجرّم الاعتصامات والاحتجاجات التي تعطّل العمل.سلطوية جديدة وليست استمراراً لسلطوية مبارك. الجيش يدافع عن سيطرته، وعن رغبته في وضع الثورة على قضبان النظام.