راقب اليمنيون في شهر كانون الثاني سقوط الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، ومن ثم تقدّم الثورة المصرية بخطى ثابتة نحو إسقاط الرئيس المصري حسني مبارك، وتساءلوا عن السبب الذي يمنعهم من أن يجاروا أقرانهم في تونس ومصر، فلم يجدوا سبباً. اتجهت أنظارهم نحو القصر الرئاسي، فتذكروا أن قاطنه أمعن في اغتصاب السلطة طوال أكثر من ٣٢ عاماً، محوّلاً إياها إلى شركة عائلية يديرها بمساعدة من نجله، الموعود بأن يقدم إليه كرسي الحكم بعد حين، وأولاد أشقائه القابضين على مفاصل المؤسسات الأمنية. نقّبوا في ذاكرتهم عن موعد آخر انتخابات حرة ونزيهة شهدتها البلاد، فعجزوا عن إيجاده، وتبادر إلى أذهانهم الصراع القائم منذ مدة بين السلطة والمعارضة بشأن قانون الانتخابات، وتعمّد النظام التلاعب بجداول الناخبين لحرمان فئات واسعة من الشعب المشاركة في الحياة السياسية.
بحثوا عن مؤسسات الدولة، فتذكروا أن فعاليتها شبه معدومة، بعدما أصبح الفساد رديفاً لها، ومن نجا منها من الإفلاس، كان في طريقه إليها، فتيقّنوا أن الوقت ربما حان للتغيير الشامل، وأن لا مفر من الشارع للتعبير عن خيارهم الجديد، أسوة بأقرانهم في مصر وتونس. فبدأوا ضمن مجموعات صغيرة يخرجون إلى الشوارع رافعين شعارات تطالب بالتغيير، فيما النظام يتجاهلهم كعادته، ظناً منه أن سيناريو الاحتجاجات المطلبية سيتكرر، أيام قليلة من الاحتجاجات ومن بعدها ستعود الأمور إلى الهدوء.
في تلك الأثناء، كان الخلاف بين المعارضة والسلطة قد وصل إلى أوجه، بعد تصميم السلطة على المضي قدماً في إجراء الانتخابات في موعدها المحدد في نيسان المقبل. ولجأت المعارضة إلى الاستفادة من ورقة الشارع للضغط على الرئيس للعودة إلى الحوار والأخذ بمطالبها، فيما كان النظام قد بدأ يتخلى عن سياسة اللامبالاة التي اعتمدها طوال سنوات تجاه المعارضة. أجّل الرئيس زيارة كانت مقررة للولايات المتحدة أواخر الشهر الماضي، بعدما أدرك أن غيابه عن البلاد في مثل هذه الظروف يحمل الكثير من المخاطر، وسارع عوضاً عن ذلك إلى إطلاق المبادرات الحوارية الواحدة تلو الأخرى. افتتح بورصة التنازلات بإعلان تراجعه عن فكرة توريث الحكم لنجله أحمد أو التمديد لنفسه، مؤكداً أن طموحه لم يعد يتعدّى إكمال ما بقي من ولايته التي تنتهي في عام ٢٠١٣.
انقلبت الأدوار وتجاهلته المعارضة، مقدمةً عرضاً للقوة في ٣ شباط لإسماع صوتها، فيما دفع صالح، في الوقت نفسه، بأنصاره إلى الشارع في محاولة للإيحاء بأن لعبة الشارع لن تكون حكراً على أحد، مرتكباً خطيئته القاتلة بقيام أنصاره باحتلال ساحة ميدان التحرير في صنعاء ونصب الخيم فيها. وفيما كانت المعارضة قد بدأت تغيب عن مشهد التظاهرات، بحثاً عن تسوية مع النظام، كان المحتجون يمسكون بزمام المبادرة، بعدما قدم سقوط النظام المصري جرعة دعم معنوية لهم، معلنين بدورهم اعتصاماً مفتوحاً حتى سقوط النظام. وطوال الأسابيع الخمسة الماضية، نجح المعتصمون في كسب نقاط عديدة، أسهمت كل واحدة منها في تدعيم صمود الثورة. فالاعتصامات التي بدأت بتعز وصنعاء، سرعان ما تمدّدت إلى مختلف المحافظات، ومن بينها عدن.
وبينما كان النظام يراهن على خلافات اليمنيين لتفكّك الاحتجاجات، نجح المحتجون، بدءاً من صنعاء مروراً بصعدة ووصولاً إلى عدن، في التوحد خلف مطلب تنحية الرئيس اليمني. فالحوثيون الذين عرفوا بشعار «الموت لأميركا... الموت لإسرائيل»، والجنوبيون الذين خاضوا طوال السنوات الماضية صدامات ماراتونية مع القوات اليمنية للمطالبة بفك الارتباط، نحوا مطالبهم وشعاراتهم جانباً، وبات «إسقاط الرئيس» شعاراً تتردد أصداؤه من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
عجز النظام عن إدراك ما يدور من حوله، وراهن على عدم خبرة الشباب، ومحدودية تمثيلهم للمجتمع، معتقداً أنهم بلا مظلة دينية أو قبلية تحميهم، في بلد يمثّل الدين والقبلية عماد أركانه. فأطلق نحوهم بلطجية مسلحين بعتاد قوات أمنية، في محاولة لإرهابهم ودفعهم إلى إجهاض تحركهم. استعمل في البداية العصي الكهربائية والحجارة، فكانت النتيجة عزيمة أكبر لدى المعتصمين، وانضمام أعداد أكبر من المحتجين. من جديد لجأ النظام إلى الترهيب باستخدام القنابل السامة، فسرّع من استقطاب المعتصمين لفئات جديدة، أبرزها القبائل التي بدأت تعلن تباعاً انضمامها إلى الثورة، مقدمةً صورة حضارية متميزة عن سلوكها، بعدما باتت الكلمة سلاحها. اعتقد النظام أن جرعة إضافية من العنف ستسهم في خروج القبائل عن طورها ومسارعتها إلى السلاح للتعبير عن غضبها لتفجير أعمال عنف دموية تقود إلى حرب أهلية فيستعيد زمام المبادرة، لكنّ ظنه خاب من جديد، وباتت الثارات بين القبائل أمراً ثانوياً، بعدما أصبح علي عبد الله صالح العدو الأوحد، فيما أولى بوادر التمرد داخل المؤسسة العسكرية كانت قد بدأت تلوح في الأفق، مع خروج صيحات تطالب الرئيس بالتنحّي من داخل مقر الأمن المركزي، وقيام أحد أبرز دعائم النظام، علي محسن الأحمر، بالانضمام إلى الثوار، بعدما تولى عناصره (الفرقة الأولى) المرابطون عند أحد مداخل ساحة التغيير حماية المعتصمين.
عند هذه النقطة، حسم صالح خياره بضرورة إخلاء ساحة التغيير مهما كلف الأمر، بعدما تيقّن من أن المعركة هي معركة وجود، وبقاء المحتجين يعني رحيله، ولا سيما أنه شاهد جمعاً كبيراً من أعضاء حزبه ونوابه ووزرائه ينفضّون من حوله، معلنين أن السيل قد بلغ الزبى من رئيس لا يتقن سوى القتل.
تطورات أفقدت الرئيس صوابه، فتحيّن «جمعة الإنذار المليونية»، في الثامن عشر من الشهر الحالي، وحوّلها إلى مجزرة أسقطت ٥٢ قتيلاً، في موازاة ترسيخها لحتمية بقاء المعتصمين، ولو تطلّب الأمر سقوط المئات لا العشرات منهم، بعدما نقل شهود عيان روايات عن لحظة وقوع المجزرة، أكدوا خلالها أنه في لحظة إطلاق القناصة المتمترسين على أسطح المنازل الرصاص، كان المحتجّون يتقدمون بالمئات نحو مصدر الرصاص، ليتساقطوا واحداً تلو الآخر، حتى تراكمت الجثث وسط بركة من الدماء سرعان ما فاضت لتحدث طوفاناً يقترب من إطاحة صالح من منصبه.
فالمجزرة مثّلت نقطة تحوّل حاسمة في مسيرة النضال الشعبي والسياسي ضد صالح. المعارضة المترددة حسمت خيارها بما لا رجعة فيه، بالوقوف في صف المطالبين بتنحية الرئيس، بعدما بقيت طوال الفترة الماضية مترددة، واضعةً قدماً في السفارات، تستمع هناك إلى نصائح غربية ـــــ أميركية ـــــ أوروبية تطالبها بضرورة العودة إلى الحوار، والقدم الأخرى على مقربة من ساحة الاعتصام.
أما كبار ضباط الجيش الذين أعلنوا استقالاتهم، وفي مقدمتهم علي محسن الأحمر، خلال اليومين الماضيين، فكانت المجزرة ذريعة قوية ليبرروا بها الهروب من سفينة النظام، رغم أنهم كانوا حتى الأمس القريب من بين أكثر المستفيدين منه، فيما دفعت المجرزة كبرى القبائل حاشد وبكيل وكبار مشايخها، وفي مقدمتهم صادق الأحمر، إلى إعلان براءتها من الرئيس، داعين إياه إلى تلبية مطلب الشعب بالرحيل.