يقدّم التاريخ الحديث نموذجَين يمكن استحضارهما لمحاولة استشراف مجموعة السيناريوهات المرشحة لأن تبصر النور في ليبيا التي دخلت في نادي الدول المستهدَفة بحرب طابعها الأهم غربيّ: حرب كوسوفو 1999، وغزو العراق 2003. حالتان تختلفان كل الاختلاف، لكن يجمعهما عنصر أساسي: حرب غربية (أطلسية صرفة في يوغسلافيا، وأميركية ـــــ بريطانية فعلياً في العراق) ضد دولة عُدّت «مارقة».
في البلقان، كانت إحدى أغرب الحروب في التاريخ، سُمِّيَت «حرب الريموت كونترول» حيناً، بما أنّها ظلت حرباً من الجو، ولم تطأ قدم أيّ جندي أطلسي أرض «العدو» سوى عند «الأصدقاء» في كوسوفو، وحرب «الصفر خسارة» في أرواح الجهة المهاجِمة أحياناً، مع تكريسها مبدأً جديداً في العلاقات الدولية من خلال شرعنة الاحتلال تحت حجّة «التدخّل الإنساني»، ما أعطاها صفة «الحرب الإنسانية». لكن في المحصّلة، كانت حرباً غير إنسانية بتاتاً، مع تسبُّبها بمقتل 5700 مدني يوغسلافي (تقديرات بلغراد في مقابل اعتراف الحلف الأطلسي بقتل 1500 مدني). أمّا في العراق، فحديث مختلف تماماً، إذ كانت حرباً مخطَّطاً لها أن تنتهي باحتلال كامل وشامل لأرض بلاد ما بين النهرين، لا بتغيير نظام صدام حسين فحسب، بل ليكون ذلك التغيير مناسبة لقلب خريطة المنطقة والعالم. وحتى في تلك النقطة، أمكن إقامة مقارنة مع اعتبار حرب البلقان تاريخاً لبدء احتساب سنوات الأحادية القطبية الأميركية الفعلية، بعد سنوات الفوضى التي أعقبت انهيار المعسكر السوفياتي.
السؤال المطروح اليوم هو كيف سيكون مصير حملة «فجر الأوديسا» التي بدأت بتردُّد قبل يومين؟ هل ستكون نسخة عمّا حصل في الأيام اليوغوسلافية الـ78 (من 24 آذار حتى 11 حزيران)، بمعنى اقتصار الحملة على قصف جوّي مكثَّف يستهدف البنى التحتية لنظام معمر القذافي، وتسليح المقاتلين الليبيين ليصفّوا حساباتهم مع كتائب القذافي؟ أم حماية آبار النفط، المتمركزة في غالبيتها العظمى في الوسط والجنوب الليبيّين غير المأهولَين إلا بالقبائل، تستوجب إيجاد موطئ قدم على الأرض الصحراوية؟ أم بنغازي ستكون المعادل الليبي لكوسوفو، من ناحية اعتبارها ممنوعاً على القذافي المسّ بها، ويمكن الجهة المهاجمة التمركز فيها (أكان تحت لواء الأمم المتحدة أم الحلف الأطلسي أم قوة مختلطة مع الجامعة العربية) لتجنيبها «تطهيراً عرقياً» وإبادة بحق المدنيين. لكن هنا يكمن تفصيل بالغ الأهمية؛ حتى الآن، لم تتصاعد دعوات تقسيمية فعلية لاستقلال الشرق الليبي عن غربه، بينما كان الهدف السياسي الأساسي في حرب يوغسلافيا إعطاء كوسوفو الاستقلال تحت شعار «إخراج الصرب من كوسوفو وإحلال قوات حفظ سلام وإعادة النازحين». ويمكن توقع أن تبقى مدن الشرق خالية من أي وجود عسكري أجنبي، إذا ظلّ الخطاب السياسي توحيدياً لا تقسيمياً في الجماهيرية.
ومع انطلاق الحملة العسكرية ضد ليبيا، تبدو ضئيلة توقُّعات احتمال اتجاهها لتكون عراقاً ثانياً؛ هنا شعب أعلن ممثّلوه في «المجلس الوطني الانتقالي» رفضهم لأيّ إنزال برّي غربي أو أجنبي عموماً، حتى إنهم أعربوا عن نيّتهم مقاومة أي احتلال أجنبي بأشرس ممّا يقاتلون كتائب النظام حالياً، حاصرين جلّ مطالبهم بمنع طائرات القذافي من قصفهم، وبتسليحهم والاعتراف بقيادتهم السياسية والعسكرية. ومن العوامل التي تجعل من تكرار السيناريو العراقي في ليبيا أكثر من صعب، اختلاف الأرض وعدم استعداد أيّ من المعنيين الدوليين للدخول في مستنقع ليبي في موازاة بقاء جبهات عديدة أخرى مفتوحة، أهمها أفغانستان طبعاً. وهنا لا يبدو الكلام الأميركي عن عدم استعداد الجيش للدخول في حرب ثالثة (العراق وأفغانستان والتورّط في باكستان) مجرد حديث للاستهلاك الداخلي، إذ تفيد الأرقام والمعطيات وتأثيرات الأزمة المالية العالمية، إضافة إلى المعارضة الجمهورية الأميركية لأي التزام إضافي يكبّد الخزينة تكاليف جديدة، بانعدام النية لدى حكام واشنطن بالنزول على الأرض، والتسبُّب في موجة كره جديدة للسياسة الأميركية. كل ذلك في عزّ مساعي إدارة باراك أوباما لكسب ودّ الثوار الجدُد في الدول العربية، وتحسين صورة أميركا لدى الرأي العالم العربي والإسلامي. هو إسلام تدرك واشنطن أن ليبيا مصدر رئيسي لتيارات أصولية منه، ستستفيق حتماً إن تحسّست وجود أجنبي «صليبي» على أراضيها.
أوروبياً، من غير المرجَّح أن تقود فرنسا ـــــ ساركوزي أو إيطاليا ـــــ برلوسكوني قطار احتلال ليبيا، وهما الدولتان اللتان يحارب زعيماهما على أكثر من جبهة داخلية، ولا ينقصهما أبداً خلق معارضة فئات جديدة لحكمهما، أكان الحديث عن نيكولا ساركوزي الذي يخسر يومياً من شعبيته الباقية، أم سلفيو برلوسكوني الذي يواجه شبح المحاكمة.
أمّا التخبُّط والغموض المعتادان في الموقف العربي إزاء الحملة العسكرية، فلا يعنيان، في جميع الأحوال، حماسة لاحتلال غربي ميداني لليبيا، وهي المحاصَرة بحدود مشتعلة أصلاً بثورات شعبية وبعدم استقرار، من تونس ومصر والجزائر والسودان.
إن القراءة «البريئة» لاحتمالات سلوك الجهة الأجنبية المهاجِمة تفيد برغبة في تكرار ما حصل في يوغسلافيا، حيث أنهى القصف الجوّي استهداف جميع أهدافه العسكرية منذ اليوم الثالث لبدء الهجوم. سرعة فائقة أطلقت نظريات عديدة عن إمكان الفوز في حروب من دون التحام عسكري، ومن خلال قصف جوي حصراً. لكنّ الفارق النوعي بين الحالتين الليبية واليوغسلافية هو في أن العقيد القذافي اليوم يواجه الجزء الأكبر من شعبه، بينما لم يكن هناك معارضة مسلحة لميلوسوفيتش (خارج كوسوفو وقوات تحريرها)، لذلك تحوّل القصف في البلقان ليطال البنية التحتية الصناعية ليوغسلافيا والمطارات ومحطات الكهرباء و... كل شيء، لتركيع الرئيس ونظامه. بينما في الدولة الأفريقية، البنية التحتية الوحيدة الفعلية التي توجِع هي آبار النفط ومحطات تكريره، وهي الممنوع استهدافها، لا بل هي التي يهدد القذافي بقصفها. بالتالي، لا تتوافر أوراق عديدة يلعبها المهاجِمون الأجانب للضغط على القذافي لإجباره على التنحّي أو الهرب أو الاستسلام.
على العموم، تتشابه الحالات اليوغسلافية والعراقية والليبية في عامل مركزي: أي من تلك الحملات لم تنل تفويض الأمم المتحدة ولا مجلس أمنها، إلا بطرق ملتوية. في كوسوفو كان الاتكال على اجتهاد الدول الـ11 المهاجِمة لتفسير مضامين القرارين الدوليين 1199 و1160 اللذين صدرا تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ونصّا على وقف إطلاق نار فوري وحماية المدنيين، إضافة إلى فرض حظر على بيع الأسلحة ليوغسلافيا. كذلك كانت حال الوضع العراقي والقصة الشهيرة عن احتلاله وغزوه من دون عودة «ائتلاف الراغبين» إلى مجلس الأمن، الذي عاد في ما بعد لاستصدار قرار يعطي الشرعية للاحتلال. أما اليوم، فقام السند القانوني على تفسير القرار 1973 الذي تحدّث عن اتخاذ الإجراءات المطلوبة للسماح بتطبيق حظر جويّ على السماء الليبية لحماية المدنيين من بطش القذافي.
في المحصّلة، لا بدّ من أن تحدّد التطورات الميدانية الداخلية في ليبيا مسار تطورات الحملة الأجنبية العسكرية، ومصير «فجر الأوديسا». أيّ إطالة للحرب تجعلها استنزافية، مثلما يرغب فيها القذافي، لن تكون في مصلحة الغرب والعالم عموماً، لما سيكون لها من تداعيات كارثية على أسعار النفط وفتح المجال لتصدير أو استيراد فرق إسلامية لتساعد على محاربة «الصليبيين». وأي إنجازات حربية يحققها الثوار الليبيون، ستكون مصدر سرور للغرب خصوصاً، وهو الذي قرر الوصول إلى نقطة اللاعودة من ناحية قطع حبل السرّة بنظام آل القذافي.
في يوغسلافيا، لم تنتهِ الحرب فعلياً إلا بعدما دخلت روسيا على الخط بقوة، وأقنعت الرئيس اليوغوسلافي في حينها، سلوبودان ميلوسوفيتش، بالموافقة على شروط الاستسلام (سحب قواته من كوسوفو)، وهو ما حصل فعلاً في 11 حزيران، وسمح للقوات الأطلسية KFOR بدخول الإقليم الذي أصبح دولة مستقلة في 17 شباط 2008. اليوم، في الحالة الليبية، قد تكمن المشكلة الحقيقية، التي تنذر بإطالة الحرب، في صعوبة إيجاد محاور دولي للقذافي، بعدما مالت تركيا إلى معسكر «الراغبين» في إزاحة نظام العقيد، وبعدما رُفضَت وساطة كراكاس قبل أن تولَد حتى.