كانت أفغانستان، قبل أن تطأها الأحذية الخشنة واللحى ورائحة الدم، مكاناً سحريّاً للعيش. قبل سبعة قرون، غادر جلال الدين الرومي مدينة «بلخ» ليبدأ طوافه الصوفي حول العالم. كذلك عبرت الأشعار الشفوية المدهشة لقبائل نساء البشتون حدود البلاد مثل صرخات موجعة، إلى أن كتمت حركة «طالبان» المتشدّدة أصوات النساء بالبرقع ليصمتن قسراً.
يصرخ أحد الأصوليين الأفغان في المحكمة الدولية في استوكهولم (1981)، متهماً الاتحاد السوفياتي بتدمير القيم الأفغانية «الشيوعيون ألحقوا العار ببناتنا! لقد علموهن القراءة والكتابة». لكل هذه الأسباب، أهدى عتيق رحيمي (1962) روايته «حجر الصبر» (جائزة غونكور-2008) إلى الشاعرة الأفغانية ناديا أونجمان التي قُتلت على يد زوجها عام 2005، إثر اكتشافه أنها تكتب شعراً. الحروب العنيفة التي توالت على هذه البلاد، والقيم الرثّة التي ألقت بثقلها على الحياة أحالتها إلى حطام ذكريات. لم يصمد مدرّس اللغة الفرنسية الشاب طويلاً، فقرّر النجاة بجلده، ومغادرة البلاد إلى باريس. في عاصمة الأنوار، درس السينما والاتصالات البصرية، واتجه إلى الكتابة الروائية والإخراج السينمائي، في مزيج سردي متناوب بين المجاز الحكائي وجماليات الصورة. «أرض ورماد» روايته الأولى (2000) كتبها بعين السينمائي قبل أن يحوّلها إلى شريط يختزل أوضاع البلاد. تنهض الرواية، والشريط أيضاً، على شخصيتي الجدّ والحفيد في بحثهما عن الابن، وكانا قد نجَوَا من مجزرة في إحدى قرى أفغانستان على يد الجيش السوفياتي. وبذلك سعى إلى لملمة خيوط الحكاية بين جيلين، والمسافة الفاصلة بين سرديات الماضي المشبعة بالندم، وحيرة الجيل الجديد في مواجهة فواتير اللحظة الراهنة المشتعلة بالمآسي. في مواجهة انهيار مقومات العيش، واحتضار الزمن، وحضر التجوال، والمعتقلات، والصراع على حقول الخشخاش، يتكئ رحيمي على قوة الحلم في بناء عالم موازٍ لإيقاف لحظة الجنون والرعب والعبث.
يتكئ على قوة الحلم
في بناء عالم موازٍ لإيقاف لحظة الجنون والرعب والعبث
وتالياً إن روايته «ألف منزل للحلم والرعب» (2002) كانت جداراً استنادياً لحماية الأرواح التالفة، ونوعاً من مقاومة النسيان باستدعاء الموروث الثقافي الشعبي والميثولوجيا الدينية، وحكايات الحرب بوصفها نقاط ارتكاز مضادة تعانق لا معقولية ما يحدث.
هكذا سيلجأ إلى حكايات «الملّا دام الله سعيد مصطفى» كرافعة روحية للحفيد «فرهد» الذي وجد نفسه غارقاً في مستنقع العنف والبطش والرعب. في يوم وليلة فقط، ستتناسل الحكايات والتعاويذ والأحلام والآيات القرآنية بقصد تخفيف وطأة الجنون والخوف والموت، في ظل الحكم الشيوعي لأفغانستان، وإذا براية الأحمر الأممي تتحول إلى كفن مضرج بالدماء. بشر ذاهلون في شوارع الجنون والخديعة الإيديولوجية، واللاطمأنينة، لم يبق لهم من ملجأ غير الحلم لإزاحة ثقل الكابوس الطويل، لكننا سنهضم وليمة الرعب هذه بجرعات شعرية حاذقة، ومنمنمات سردية أشبه ما تكون برسومات سجادة فارسية، فهذيان فرهد سينفتح على مشهديات مفكّكة، تغوص في قسوة البيئة التي نشأ فيها، قبل أن تتحوّل إلى سبيكة محمولة على استرجاعات الذاكرة، ووهم الراهن الذي ينتهي به إلى الهرب خارج البلاد. بعد عقدين من هجرته القسرية، سيعود عتيق رحيمي بنفسه إلى أفغانستان لترميم تضاريس الجنّة المفقودة، أو وفقاً لعنوان كتابه عن هذه الرحلة «العودة الخيالية» (2005). هنا يجمع بين الفوتوغرافيا واليوميات في محاولته استعادة صورة كابول القديمة قبل أن يتعاقب عليها الغزاة، والحكومات الديكتاتورية، والموت اليومي، ورجم النساء في الساحات العامة، أو ما يختزله بـ «اغتيال النوستالجيا». ويبرّر مشروعه هذا بقوله: «قبل أن تأتي لتصوّر كابول، جاء قبلك مصورون كبار والتقطوا أروع الصور، بالطبع صوّروا الجراح نفسها، لا أبحث عن الجمال، أبحث عمّا يعيد أحاسيس إنسان يشعر بالألم وهو يرى ويشاهد عن قرب ندوب هذه الجراح.
في كلّ مرّة عندما نرى هذه الندوب التّي لا تندمل نعجز عن نسيان الألم، لذا لا تنسَ، هذه ندوبي أنا، ولهذا أنا أبحث عنها حتى لا أنسى». لكن ماذا وجد بعد هذا الغياب؟ أطلال جنائزية، وأنقاض، وشوارع مهجورة، وحكايات أليمة. اكتفى بالتقاط خمسين صورة «بتواطؤ مع حنين الذاكرة المريضة». أغلق عدسة كاميرته القديمة، ثم مضى إلى منفاه مثقلاً بألم مضاعف، ذلك أن أفغانستان الذاكرة لا تشبه أفغانستان الجديدة الغارقة في الدم والدمار والخوف. الكتابة والصورة إذاً، هما تمارين على ترويض الألم، ونبش لمخزون قديم ومفتقد، أو مرثية لزمنٍ سعيد وآفل.
إثر عودته من رحلته إلى كابول، سيقع على أسطورة مؤثرة، وسينطلق من خلالها إلى أحوال المرأة الأفغانية ومكابداتها التاريخية في مجتمع ذكوري خشن، مزيحاً الغطاء عن أوجاع الجسد الأنثوي المحاصر من كل الجهات، ومستنجداً بعبارة لأنطونين أرتو «من الجسد وإلى الجسد، ومع الجسد، منذ الجسد وحتى الجسد» كانت بمثابة تميمة سحرية.
رؤية سردية ومعالجة سينمائية أخّاذة بعنوان «حجر الصبر» (2008) فحواها لجوء أصحاب المواجع إلى حَجر سحري يبثّونه أوجاعهم وأحزانهم وأسرارهم. وعندما يصلون إلى ذروة الأسى، ينفجر الحجر ويتفتت، فتزول الأحزان من صدورهم.
المرأة التي تروي حكايتها هنا تفترض أنّ زوجها المشلول بطلقة رصاصة في عنقه، أفقدته القدرة على النطق والحركة، هو حجر صبرها. ترتفع وتيرة الألم إلى درجة الغليان، لتفصح المرأة تدريجاً، في مونولوغ طويل عن عذابات جسدها وأشواقه ورغباته، غير عابئة بالمحظورات. اعترافات جريئة عن تقلّبات حياتها، ولحظات الحب المسروقة، ونصيحة بائعة هوى لها بأن تشفي جسدها بالحب المحرّم «فالرجال الذين يلجأون إلى القتال، لا يعرفون كيف يمارسون الحبّ».
تتأرجح مشاعر هذه المرأة التي بلا اسم، بين الحب والسخط والكراهية. الرجل المعلّق بين الحياة والموت بأنبوب كيس السيروم يصغي إلى أسرار زوجته نقطة نقطة، في غرفة بائسة، في أحد أحياء كابول العشوائية، فيما تنصت المرأة إلى أصوات الرصاص في الخارج، على وقع خرز سبّحتها وهي تردّد أدعية دينية، على أمل شفاء رجلها من غيبوبته. في المقابل، تبطن كراهية عميقة للرجال، إذ لا فرق بين والدها وزوجها: الأول رهن شقيقتها الصغرى لرجل في الأربعين بلعبة قمار خاسرة، والثاني أضاع عمره في الجهاد ضد أعداء وهميين في حرب عبثية مجنونة، وكان على المرأة أن تنتظره ثلاث سنوات، انشغل خلالها بالحرب، لتكتشف لاحقاً أنه عقيم وجلف ومتوحش. وها هي تخبره بأنها حملت من رجل آخر بابنتيها، كي تداري «فضيحته» أمام عائلته. وسط هذا الخواء والفراغ والضجر، تقتحم الغرفة عصابة من الجهاديين، بعدما أصبح الحيّ نقطة تماس بين الفصائل المتحاربة، بقصد النهب، لكنهم لا يجدون ما يستحق السرقة، عدا نسخة من القرآن، وخاتم زواج يخلعه أحدهم من إصبع الرجل المشلول، فيما هربت المرأة وابنتاها إلى حيّ آخر تقطنه عمتها. وحين عادت في اليوم التالي، وجدت الفوضى تعمّ الغرفة. عند هذا المنعطف، تزداد حدّة خوفها، وتراجع شريط حياتها مع هذا الرجل الذي لم يورثها غير مشاعر الحسرة والندم طوال عشر سنوات من الجحيم. تتوالى اعترافات المرأة، طرداً مع ارتفاع وتيرة العنف في الخارج، وتنبش ما هو مخبوء من أسرارها، غير عابئة بردّ فعل زوجها المريض، رغم شكوكها، بأن صمته محاولة لاستدراجها نحو اعترافات أخرى، أكثر مرارةً.
صمت الرجل ومكابدات المرأة تتناوب فوق الأنقاض، في مشهديات شعرية تنطوي على أسئلة شائكة عن الحب والرعب والرغبة «هذا الصوت الذي ينبثق من حنجرتي، هو الصوت الكامن منذ آلاف السنين» تقول المرأة. يلجأ رحيمي إلى سردية مماثلة لما كانت تقوم به شهرزاد في ألف ليلة وليلة، لكن من ضفة مضادة. شهرزاد الأولى كانت تروي الحكايات كي تؤجل موتها، بينما شهرزاد الأخرى تستدعي الحكايات بقصد العودة من موتها، ذلك أنّ شمسها لم تبزغ طوال عمرها، هي المحكومة بالخسارات والعنف والحرمان.
هكذا تستعيد جسدها وروحها من غيبوبتهما القسرية، كأن الحكاية هي منقذها من القنوط الذي يحيط بحياتها، الحكاية التي ستعيد إليها هويتها الممزّقة تحت وطأة الأعراف الذكورية الصارمة، والتعاويذ المزيّفة، وقوة الصبر. انعطافة سردية حادة سيباغتنا بها حفيد «الفردوسي» بلجوئه إلى إحدى روايات دوستويفسكي لتفسير معنى «الجريمة والعقاب» بنسخة أفغانية تحت عنوان «ملعون دوستويفسكي» (2011) في انزياح حكائي يضع شخصية «رسول» الأفغاني في موازاة شخصية «راسكولنكوف» الروسي، بجريمة مماثلة، راصداً ذنوب المتصارعين على الأرض الأفغانية، في مساءلة تخييلية للتاريخ المنهوب، وفحص التصدّع النفسي الذي يعيشه رسول المولود لأب شيوعي قتله مجاهدو طالبان، ثم أتى الغزو الأميركي ليستكمل ما بقي من حطام البلاد. تمزّقات عميقة يواجهها رسول من دون أن يجد إجابة حاسمة عن تساؤلاته العميقة: «لكن لماذا تهت؟ لماذا لم أعد أعرف طريقي؟ أين هو الدرب؟».
ربما بسبب هذه الحيرة، لجأ عتيق رحيمي أخيراً، إلى رواية أمين معلوف «موانئ الشرق» لتحويلها إلى شريط سينمائي، يختبر خلاله لعنة الجغرافيا والتاريخ في آنٍ واحد، فما حدث في أفغانستان، يحدث الآن في جغرافيات أخرى بعنفٍ أكبر.