حتى نفهم حجم الحدث ومغزاه بالنسبة الى المراقبين، يكفي أن نعقد المقارنة التالية: عام 2008، أقامت روسيا مناورات «ضخمة» لأسرابها الاستراتيجية، شاركت فيها 12 قاذفة بعيدة المدى؛ وقد مثّلت تلك التمارين (التي تابعها الغرب باهتمام وقلق) أكبر ظهورٍ للقاذفات الروسية منذ عام 1984.
يوم الإثنين الماضي، قادت 25 قاذفة روسية الغارات، بينها خمس من طراز توبوليف-160 «بلاكجاك» («البجعة» بالتسمية الروسية) وست طائرات توبوليف-95 «الدبّ»، والفئتان لم تطلقا صاروخاً واحدا في معركةٍ من قبل؛ اضافة الى 14 قاذفة تو-22 ام ثقيلة، التي سبق ان اشتركت في حروب أفغانستان والشيشان وجورجيا.
حين نتكلّم عن القاذفات الثقيلة - وهي فئة ليست موجودة، بأعداد معتبرة، الا لدى الولايات المتحدة وروسيا والصين - فإننا نتكلم عن أكثر الطائرات تعقيداً في أساطيل الدول الكبرى، وأغلاها ثمناً، و»السلاح السري» الذي يُفترض به أن يؤدي المهمات الصعبة حين تشتعل الحرب، ويخترق أجواء العدو، ويضرب أساطيله، ويحمل الشحنات النووية. يفوق ثمن قاذفة البي-2 الأميركية المتقدمة (المشهورة بأن سعرها يفوق قيمة وزنها ذهباً) سعر مدمّرة بحرية كبيرة، وحين حاول السوفيات، في الستينيات، بناء قاذفة أسرع من الصوت (سوخوي تي-4)، نتجت من جهود التصميم مئات براءات الاختراع، لكثرة الابتكارات التكنولوجية التي استلزمها المشروع - والطائرة لم يجرِ اعتمادها وانتاجها في نهاية الأمر.

«البجعة البيضاء»: حكاية روسية

«مثّلت غارات
الاثنين أكبر ظهورٍ للقاذفات الروسية منذ الثمانينيات»
بمعنىً ما، تختصر التوبوليف-160 قصّة روسيا في العقود الثلاثة الماضية. جرى تصميم الطائرة في السبعينيات حتى تؤدّي مهمة شبه مستحيلة: أن تطير لآلاف الكيلومترات كالقاذفات الثقيلة، ثمّ تخترق أجواء العدو بسرعة تفوق الماك-2 كالمقاتلات النفاثة، ثم تنسلّ - في طريق العودة - على ارتفاعٍ منخفض جداً لتجنّب دفاعات العدو (كانت رادارات المسح الأرضي وتتبع التضاريس، التي تسمح للطائرات الثقيلة والسريعة بالتحليق قريباً من الأرض، قد بدأت بالظهور).
من أجل تحقيق هذه المتطلّبات (التي جسّدتها، على الجانب الأميركي قاذفة البي-1) صمّم السوفيات أكبر الطائرات القتالية في العالم: «البجعة البيضاء» التي تقدر على حمل أربعين طناً من الذخائر في بطنها؛ أما المحرّكات الأربعة التي تدفع هذا الهيكل الضخم الى سرعته القصوى، فهي أقوى محركات صنعت لطائرة مقاتلة قطّ. هذه التحفة الهندسية، التي مثلت قمة الطموح السوفياتي وابداع خبرائه، كانت في أيام يلتسين تصدأ في التخزين، وقد بات في حوزة روسيا أقل من ست طائرات عاملة منها، واوكرانيا تتأهّب لتحويلها الى خردة. لو أنّك أخبرت عسكرياً غربياً، في أواخر التسعينيات، أن الـ «بلاكجاك» ستكون في الخدمة وتنفذ مهمات قتالية بعد عقدٍ ونصف عقد، لعدّ الكلام خيالاً علمياً.
ظهرت الـ»بلاكجاك» الى العلن عام 1989، ولكنها كانت قد انضمت الى الأسطول النووي قبل ذلك بسنتين على الأقل، وقد جرى انتاج 35 نسخة منها قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، ذهب أكثرها الى اوكرانيا (حيث كانت الأسراب متمركزة)، وظلّ في يد الطيران الروسي 16 نموذجا، تنقصها قطع الغيار وبالكاد تطير في مهمات تدريب.
في ظلّ الانهيار المعمّم الذي تعرّض له الجيش الأحمر في عهد يلتسين، حاولت القيادة الحفاظ على نواةٍ من قوة الغواصات النووية والصواريخ البالستية للحفاظ على معادلة الردع النووي، غير أن الـ«بلاكجاك»، التي تستلزم كلفة صيانة هائلة وتحتاج الى تحديثات وتعديلات مستمرة، ظلّت مهملة في عهد الفاقة والانحدار.
أوقفت روسيا، منذ أوائل التسعينيات حتى عام 2007، دوريات الاستطلاع والرصد والتجسس التي كانت موكلة الى الأسطول الاستراتيجي، ولم يعد لهذه الطائرات من مهمة خلال هذه الفترة باستثناء بعض الطلعات التدريبية. يُقال إن حرب يوغوسلافيا عام 1999 كانت العامل الذي صدم القيادة الروسية ودفعها الى إعادة تشغيل التو-160. اشترت روسيا ثماني نسخ من المخزون الأوكراني، الذي كانت كييف في صدد اطعامه لآلات التقطيع، ضمن برنامجٍ غربي يدفع مساعدات لأوكرانيا مقابل تدمير أسلحتها الاستراتيجية، وبدأت بوضع برنامج بعيد المدى لتحديث واحياء الأسطول الاستراتيجي. الطائرات الـ 16 عادت رسميا الى الخدمة عام 2005، وهي تخضع لسلسلة تحديثات ستستمرّ لأعوامٍ تالية (ويتوّجها انتاج محرّكٍ جديد، أكثر فعالية وأقل أعطالاً). بدلاً من أن تختفي هذه الطائرات تدريجيا، كما تنبأ الخبراء الغربيون في التسعينيات، سيُعاد تشغيل خط انتاج الـ «بلاكجاك» على يد شركة «قازان» (مع نسخة جديدة محدّثة جذرياً، هي التوبوليف-160 ام)، حتى تُضاف الى سلاح الجوّ خمسون قاذفةٍ جديدة، ستمثّل العمود الفقري للأسطول الاستراتيجي الروسي في الغد القريب.

«الدبّ» و»الباكفاير»: القديم الذي لا يتقادم

ينتمي تصميم القاذفة الضخمة، توبوليف-95، الى عقد الخمسينيات، حين كان يكفي أن تحلّق طائرات القصف (أو التجسس) فوق ارتفاع معيّن حتى تصير بمنأى عن كلّ الدفاعات الجوية والمقاتلات المعترضة (لم تكن الصواريخ المضادة للطائرات قد طوّرت بعد). لذلك لم يكن شرط السرعة مهمّاً، بل كانت المتطلبات من قاذفات ذاك الجيل - كالبي-52 الأميركية - تتلخص في أن تطير لمسافات بعيدة مع حمولة معتبرة، وقد كانت «الدبّ» هي التصميم المثالي لهذه المهمة.
محرّكات المراوح التي تطير بالقاذفة هي - حتى اليوم - الأكثر فعالية على الإطلاق من ناحية استهلاك الوقود، وإن كانت لا تسمح ببلوغ سرعات فوق - صوتية. و»الدب» قادرة على الطيران لأكثر من عشرين ساعة بلا توقّف، لتجتاز 15 ألف كيلومتر مع حمولة تفوق الـ 15 طناً من القنابل والصواريخ! برغم أن التحديثات المتوالية للقاذفة قد جهزتها بخرطومٍ للتزود بالوقود في الجو، الا أنّه نافلٌ ونادراً ما يستخدم، اذ يكفي الوقود الداخلي الذي تحمله لأي مهمة يمكن تصوّرها.



مزايا المدى والتوفير أبقت الطائرة في الانتاج حتى بعد ظهور أجيال القاذفات النفاثة، وجرت صناعة المئات منها لكي تستخدم في مهمات الدوريات البحرية والاستطلاع والحرب الالكترونية التي لا تتطلب الاقتراب من دفاعات العدو - فالى جانب بطء القاذفة الذي يصعّب عليها الافلات من المقاتلات المعترضة، فإن شفرات محركاتها الضخمة تجعل الطائرة تظهر بوضوحٍ، ومن مسافات بعيدة، على شاشات الرادار. ثم أعطت الصواريخ الجوالة (التي ظهرت في السبعينيات ويبلغ مداها آلاف الكيلومترات) هذه القاذفة القديمة دورة حياة جديدة، اذ صار من الممكن ضرب العدو من مسافات آمنة ومن دون الاضطرار الى التحليق فوق أراضيه: جرى انتاج نسخة جديدة من «الدبّ» مخصصة لحمل الصواريخ الجوالة. وسوف تظلّ التو-95، التي يملك سلاح الجو الروسي أكثر من ستين منها، في الخدمة لسنوات تالية (تماماً كالبي-52 الأميركية) حيث سيكون عمر القاذفة، في كثير من الحالات، أكبر بكثير من عمر الطيارين الذين يقودونها - حتى تبدأ نسخ التو-160 الجديدة، التي ستنتج بمعدل 3 كل سنة انطلاقاً من عام 2023، باستبدالها تدريجياً.
أمّا الـ «تو-22 ام» («باكفاير») فهي، على الرغم من أنها لم تعد طائرة الصف الأول في الأسطول الاستراتيجي، سرعتها أقل من التو-160 ومداها قصيرٌ نسبياً، الا أنها «حصان الشغل» الذي يمثّل - عدديا - العمود الفقري لسلاح القصف الروسي (أكثر من 150 قاذفة في الخدمة، بين سلاحي الطيران والبحرية). أيام الحرب الباردة، كانت أسراب التو-22 تتدرّب - ضمن سيناريو الحرب العالمية الثالثة - على شن هجمات «الإشباع الصاروخي» ضد الأساطيل الأميركية، حيث تلاحق مجموعات من عشرات (أو مئات) طائرات «باكفاير» و»الدبّ» حاملات الطائرات في عمق المحيط الهادىء، وتضربها عن بعدٍ بمئات الصواريخ الجوالة في آن واحد لقهر دفاعات الأسطول وإعمائها. في مسارح العمليات التي لا تنضوي على مواجهة مع قوى عظمى أو دول متقدّمة، فإن الـ «باكفاير» قد تؤدي - كمياً - دوراً أهمّ من باقي القاذفات. في غارات يوم الإثنين مثلاً، كان إطلاق الصواريخ الجوالة محصوراً بالـ»بلاكجاك» و»الدّبّ»، ولكنّ الـ»تو-22» كانت من نفّذ القصف «الثقيل»: بإمكان الـ»باكفاير» أن ترمي على أهدافها خلال مهمة واحدة أكثر من عشرين طناً من القنابل، أي ما يفوق تأثير عشر قاذفات تكتيكية.

استعراض القوّة

كمية الصور والتسجيلات التي بثتها القيادة الروسية عن الحدث، من تذخير القاذفات الى انطلاقها وضرب الصواريخ وادارة العمليات، كان غير مألوف بالنسبة الى روسيا التي تبزّها اميركا، تقليدياً، في مجال «العلاقات العامة» والدعاية.

غير أن الدعاية كانت ركناً أساسياً في الحدث: لا ضرورة عسكرية أصلاً، يحاجج العديد من المراقبين، لأن تطير قاذفات من روسيا، وتقطع خمسة وستة آلاف كيلومتر، لترمي صواريخ جوالة ضعيفة التأثير على أهداف يمكن قصفها بحريّة بقنابل بسيطة تزن أطناناً، وبكلفة أقل. تقصّد التلفزيون الروسي اظهار صواريخ جوّالة «خفية» من الجيل الحديث (KH-101) وهي توضع على متن التوبوليف-160، مع أن الخصم لا يملك رادارات؛ كما تفنّن في تصوير «غرفة الحرب» المبهرة والجديدة في موسكو، التي تجمع التكنولوجيا والشاشات الضخمة مع «طابع اوروبي» فخم، وخاصة اذا ما قورنت بمراكز التحكم الأميركية ذات المظهر العملي والمكتبي (مع فارق أن اميركا تملك أكثر من 13 «مركزاً مشتركاً لإدارة العمليات الجوية» - JAOC - بين الأرض الأميركية وقطر وكوريا الجنوبية والمانيا، و»غرف الحرب» هذه مصممة حتى تكون متشابهة في ترتيبها وتنظيمها، وقابلة للإستنساخ بسهولة).
«تقدر التو-160 على حمل أربعين طناً من الذخائر في بطنها»


في الوقت نفسه، أعلنت روسيا تحويل عشرة أقمار صناعية للتصوير والتجسس، حتى يكون مدارها فوق سوريا وتصير قادرة على جمع المعلومات على مدار الساعة؛ وهو خبرٌ لا يقلّ أهمية عن استخدام القاذفات الاستراتيجية، اذ انّه يعلن للعالم جاهزية في الفضاء كانت روسيا قد فقدتها في الماضي القريب - بينما هي تستخدم اليوم، في ظروف حربٍ حقيقية، منظومة خاصة بها لتحديد المواقع عبر الأقمار الصناعية، وتوفّر لقواتها استطلاعاً فضائياً لا تقدر على مثله الا اميركا.
حين أعلنت موسكو مشروع اعادة انتاج قاذفة الـ»تو-160»، وبناء أكثر من خمسين نسخة جديدة منها، احتجّ بعض الخبراء الروس، مشيرين إلى أن السعر الهائل لهذه الطائرات (أكثر من 450 مليون دولار للقاذفة الواحدة) يكفي لشراء أكثر من 300 قاذفة «سوخوي-34» تكتيكية حديثة ومتعددة المهمات، أو إعادة بناء سلاح البحرية؛ وأن رمي الأموال على هذه المشاريع المكلفة - التي يندر أن تُستخدم في الواقع - هو هدرٌ في غير مكانه.
الّا أنّ العرض الجوي الذي قدمته موسكو، ووثّقته وبثته للعالم، يثبت أنها مصرة على الحفاظ على سلاحها الاستراتيجي، وهي تملك رؤيا واضحة لمستقبله. الـ»بلاكجاك» سوف تعود الى الأجواء، وتؤدي الدور الذي رسمه المصممون السوفيات لها منذ عقود، وستنضمّ اليها، بعد سنوات، القاذفة «الخفية» (مشروع «باك-دا») لتكتمل صورة الأسطول الاستراتيجي الروسي في النصف الأول من هذا القرن. روسيا لم تكن تفكّر في «داعش» فحسب، يوم الإثنين الماضي، بل في مستقبلها في العالم ومكانها على خارطته، والـ»توبوليف» المخيفة التي عادت الى الأجواء ليست الا أداةً ضمن هذا المسعى.