يعرف الجميع إيف سان لوران (1937 ــ 2008)، مصمم الأزياء الشهير الذي غيّر الأذواق، وأخرج الموضة من صالونات البرجوازية إلى الفضاء العام. لكن قلة من يعرفون بيار بيرجي، رفيق دربه، وخليله، وشريكه ومدير أعماله. إن كان سان لوران هو صوت الإبداع، فإن بيرجي هو صوت العقل الذي كان سنده في لحظات الشك وعدم اليقين، وهشاشة المبدع الذي يختبئ وراءه طفل أناني، ومرتعب من كل شيء.
بأناقة، نقل المغربي محمد حمودان إلى العربية «رسائل إلى إيف» (منشورات «مكتبة الأعمدة»، طنجة) الذي صدر بالفرنسية عام 2010. بعد أيام على رحيل سان لوران في الأول من حزيران (يونيو) 2008، شرع بيرجي في كتابة رسائل خاصة وحميمة، يناجي فيها رفيقه وحبه الأبدي. تبدأ الرسالة الأولى، بقصة لقائهما، وكيف قررا معاً تأسيس دار أزياء تحمل اسم سان لوران وستصير علامة فارقة في تاريخ تصميم الأزياء. يقول بيرجي في رسالته الأولى: «كم كان صباح باريس طرياً وجميلاً غداة التقينا! كنت تخوض معركتك الأولى. في ذلك اليوم، صادف المجد طريقك ليلازمك إلى الأبد. كيف كان بإمكاني أن أتخيل أننا سنكون هنا، وجهاً لوجه، بعد 50 سنة وأنني سأخاطبك من أجل وداع أخير؟ إنها آخر مرة أتحدث فيها إليك، آخر مرة أستطيع فعل ذلك. فقريباً، سيجتمع رفاتك بالقبر الذي ينتظرك في حدائق مراكش». وبين الرسالة الأولى والأخيرة المؤرخة في 14 أغسطس (آب) 2009، ينتقل بيرجي بين اللحظات الأكثر حميمية وسعادة وإيلاماً في قصة حبهما، والعشق لمهنة الأزياء.

«كيكو» ـــ كما يسميه بيرجي في الرسائل ـــ كان «عصابياً ومزاجياً، وقلقاً، وعدائياً. كان كالصبي المتطلب الذي لا يؤمن إلا بولاء الحب، وكان أيضاً في المقابل، ينتبه إلى من يكنّ له المشاعر، ويمنحه في لحظات صفائه، كل ما يملك من حب». أما بيرجي، فيبدو أرمل في الرسائل، ينظر إلى الوراء، أكثر مما يستقبل. يخبره كيف تخلى عن مقتنياتهما من التحف واللوحات لأنها تذكّره به، وكيف غيّر ديكور شقتهما الباريسية، ويحكي عن لحظات سعادتهما التي لا توصف، وهما شابان، يتحرران من عقد رهاب المثليين، ويفران إلى المدن الأوروبية والأفريقية. في سالزبرغ مثلاً، «عاشا أجمل اللحظات» وكانا عضوين مؤسسين لمهرجان مخصص لموسيقى فاغنر في عيد الفصح، وفي مراكش نُثر رماد سان لوران، بعيداً عن باريس حيث «العمومية الباردة للمقبرة وعيون الفضوليين الذين كانوا سيبحثون عنك، في مونبارناس، بين سارتر ودوراس» كما يناجيه في واحدة من الرسائل. وبينهما طنجة التي يلتقي فيها البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي. تذكرهما بوهران، مسقط رأس لوران. يقول له عنها في إحدى هذه الرسائل: «لم تطأ قدماك أبداً الجزيرة حيث ولدت. لم نكن نتحدث كثيراً عن الجزائر معاً. كنت أفضل تجنب الخوض في هذا الموضوع لأن كلامي كان سيؤلمك. أنت سليل معمرين. أنا المناضل المناهض للاستعمار. في حوار مع «لوفيغارو»، كنت قد صرحت بأنّ مثلياً جنسياً في وهران كان يعتبر مثل قاتل. لا أعلم ما كان والداك سيقولان لو علما بأنك كنت تمارس الحب مع بعض العرب. هما اللذان كانا يحتقران العرب. أنت الذي كنت تهب نفسك لهم».

لا أعلم ما كان والداك سيقولان لو علما بأنك كنت تمارس الحب مع بعض العرب

وبين المدن، كانت لحظات السعادة التي تكلل لحظات طويلة من الشك يبددها تصفيق وهتاف الجمهور تحية لتشكيلة جديدة للوران. كانت لحظات اليأس، حين عانى إيف من تبعات الإدمان، وحاول الانتحار أكثر من مرة. يتوقف بيرجي عند اليأس الذي أصاب لوران في آخر عرض قدمه في «مركز بومبيدو» في باريس: «كنت تتأهب لأن تعيش في الظل، أنت الذي لم يكن يحب سوى الشمس، أن تصرف حياتك في الماضي. أسد مجروح يرثى له، كان برجك ــ وهو نفس برج شانيل ــ قد خانك».
رسائل بيرجي إلى لوران، تتجاوز الكتابات التي تستحضر الجانب البيوغرافي الرسمي. إنها تضعه أمام تاريخه الشخصي، وتناقضاته، التي جعلته واحداً من نجوم الموضة، الذين دخلوا التاريخ من أبوابه الواسعة. تضيء الرسائل أيضاً على جزء من العلاقة المتوترة، وقصة الحب التي دامت خمسين سنة بين العشيقين. لحظات السعادة المسروقة في ستينيات القرن الماضي حين كان رهاب المثلية يغزو المجتمعات الأوروبية، والطريق صعباً إلى المجد. كما تقدم إضاءات عن شخصية بيار بيرجي. شغفه الكبير بالرسم والتشكيل، وعشقه للموسيقى، والأدب. يبدي الرجل معرفة كبيرة بالفن التشكيلي، ولوحات الإسباني غويا، وقد تبرّع بإحداها إلى متحف «اللوفر» وفق ما يرد في إحدى رسائله. وفي الموسيقى يعلن عن شغفه بعد كل هذه السنوات بمغنية الأوبرا ماريا كالاس التي كانت صديقتهما المقربة، وبفاغنر، وآخرين. كما في الأدب، يقرأ لهوغو ووايتمان وفلوبير وبروست. إنها شخصية، لكنها أيضاً من أجل تاريخ فن الموضة.