ثلاث صديقات عبر الفيسبوك، تقابلن أخيراً، جلسن في مقهى مودرن مكيف ذي طابع أنيق وبسيط، يوحي بأن أغلب رواده من الفنانين أو الصحافيين. لنا صديقة أخرى مشتركة لم تعد مقيمة هنا، دار الحوار حول موضوعات مختلفة. وبالطبع، كالعادة، كان الحديث عن حيواتنا العاطفية له نصيب الأسد.
الجو حار هذه الليلة، لا يفضل كتابة رسائل غضب في الليالي الحارة، هكذا قرأت في مكان ما... متطيّرة؟ ليس بشكل كبير، آه... يجب أن أبرر نفسي طوال الوقت حتى بعدما كسرت حاجز التمني. أتمنى أن تفهمني الآن بشكل أفضل.
تحدثت بالضرورة عن علاقتي بك، كونها علاقتي المتينة، الواضحة والمعلنة للناس والسماء والأرض. فقد حرصت على أن تكون لنا في كل المراحل صور معاً تخبر العالم فيها ــ وأخبره معك ــ أن كل شيء على ما يرام.
تضحك الصديقتان من ملاحظة ساخرة ألقيها بكل مرح، وبينما تفعلان، يلعب في مخيلتي آخر مشهد من فيلم «أقرب» متلازمة ناتالي بورتمان، المعصرة ثم الفونكس الذي يحترق ويتجدد.
مرحلة الاحتراق، السخرية والويسكي، العنف والفوضى... الغضب.
هل استمتعت بملاحقة سيداتي؟ اللاتي أخبرتك عن مدى جمالهن؟
أعتقد أنك فعلت...
توترت الجلسة عندما ألقيت بتلك الملاحظة فوق المنضدة، تدحرجت بين أكواب القهوة والعصير وزجاجة الماء البارد، تسمرت في مكانها إثر نظرتهن المتزامنة نحو خشب المنضدة الأملس.
كنت أغامر بإلقاء تلك الملاحظة، أحاول أن أتبع حدساً، طالما شوهته بقوة وساعدتك أنا على ذلك... هل أنت مضطرب الأن؟ لا... لا أعتقد، فتلك الحكاية التي أحكيها تبرز مدى براعتك وهذا يرضيك بشكل ما، لا أود أن أجعلك تضطرب، دعنا لا ننسى أن هذه في النهاية رسالة غضب.
صديقتنا الثالثة ــ التي لم تعد مقيمة هنا ــ حكت لهن، مثلما حكيت لي أنت، أن أمراً ما اختلط عليها وأنك كنت تتكلم معها كصديقة مستقبلية، وهي ربما مجنونة أو مضطربة في رأسها أو شيء من هذا القبيل، ولأني أحبك وأحبها، أخرجتُ علبة سذاجتي وتعطرت بها، عطر خفيف يسمى «ربما هو سوء تفاهم بالفعل».
لماذا سيداتي؟ السيدات اللاتي اعتبرتهن قبيلة واحدة ممتدة، عبر زمن وجغرافيا من السحر (لن تعرف عنه شيئاً بالمناسبة).
لن أفهم أبداً، كيف كرهتني هكذا في نفس الوقت كنت مصمماً وحريصاً على الاحتفاظ بي في خزانتك المنمقة؟
أنا لا أمتلك أحداً... ولا أود امتلاك أحد. لكني أهديتك قلبي المؤمن كله وكنت تقضمه كل عشية قضمة صغيرة منمنمة، مع سيجارة قبل النوم مدة الأعوام التي كنا فيها معاً.
يفعلن ذلك بعد استدراج شبه مباشر أو متطوعات معتقدات أننا لم نعد معاً أمام الناس والسماء والأرض أو لأني لا أريد ممارسة الجنس معك كفاية فحتماً هناك مشكلة في هويتي الجنسية؟ لا لأن هناك دائماً فرقاً طفيفاً وأساسياً ــ لا يفهمه أمثالك ــ بين الجنس والحسية. ممارسة الجنس تتطلب قلباً ــ من جانبي ــ وهذا كما قلنا كنت تأكله. لا؟ لم تفعل؟! هل تذكر كيف كنا في السنة الأولى؟ لا، بل هل تذكر مرّتنا الأولى؟ كيف ارتعشت أمام جسدي وكيف احتضنتك وطمأنتك إليه وفيه وبه؟ السنة الأولى كانت أشبه بالثمانية عشر يوماً. أيام نترحم عليها ونأمل من أجلها بكرامة ناصعة خالصة لا تشوبها شائبة خوف... هل لا يزال خيالي يزعجك يا حضرة ضابط داخلية الخيال المتوَّج؟
هل تود أن تتقيأ الآن؟ بينما أجد نفسي أجلس هادئة أمام فتاة أو سيدة تخبرني عن حكايتها معك؟
هل تود أن تتقيأ الآن؟ أرجوك لا تفعل. انتظر، دعني أحكي لك عن فتاة أخبرتني تفصيلاً ما قلته لها وكيف من بين كل ما تعاني، أكثر ما تعانيه الآن، هو شعورك بالإحباط جراء خروجي عن السيناريو الذي رسمته لي، آه يا ربي، أنت أسوأ من المجلس العسكري.
أخبرتني الفتاة بنت العشرين عاماً ــ بنصف إخلاص؛ لأنها كانت تحبك بالطبع وتأمل في طلاق نهائي ثم زيجة وورود ــ عن فداحة كل ما حدث، وابتسمتُ أمامها بهدوء العارفة بكل شيء بينما أغوص نحو قاع قاتم والشمس تبتعد، تجرني المزيكا لأسفل، يجرني بيانو ضخم مربوط في قدمي مثل هولي هنت في فيلم «البيانو»، هل تذكر كيف تقيأت عندما أهديتك نسخة وشاهدته أول مرة ؟ تحديداً عند مشهد خيانة الزوجة لزوجها؟ هل تذكر كيف هلعت من مشهد الخيانة؟ كان مشهداً له تبريراته الدرامية يا عزيزي، وهناك تبريرات يمكنني فهمها.
لقد روجتُ لك، هل تعلم ذلك؟ حتماً أنت لا تتخيل، وما زلت أفعل: إن كنت تريدين رجلاً يشعل الحرائق ويطفئها في السرير يا عزيزتي فهذا هو رجلك المنشود... لا... لا... لا تتعشمي الآن، هذا رجل ليس لديه القدرة على الحب ويفتخر بذلك تماماً... أنه «سيكس ماشين» حقيقية. تماماً كفيلم خمسين درجة من الرمادي. هل شاهدتِه؟ فيلم سيئ، بدا لي كخمسين درجة من البيض.
من الجيد أننا لم نحظ بأطفال ؛ كنت سأضطر للتعامل معك لبقية حياتي، هل تتخيل كم سيكون ذلك مقيتاً.
آه، ماذا أقول لك الآن متلاعبي الصغير، متلاعبي السعيد... لو كانت الروح هي رومانسية البشرية فأنا رومانسية إذاً، وهذا ما جعلك تكرهني بل وتغار مني لهذا الحد.
الإيمان والحرية
الحرية التي تخصني، وتبولتَ وتغوطتَ فيها أنت بكل استمتاع ممكن
الحرية، التي جعلتني معك ــ يا أحمق ــ من الأساس
سأتبنى الآن روح سيرانو دي بيرجراك المتهكمة وأكلمك من طرف أنفي الطويل:
هل ستبكي؟ لا، لا تبكِ أرجوك، أو ابكِ فستكون حتماً بضاعة رائجة تبيعها فكرة لأحدهم. افعل ذلك، افعله... لا تفسد عليّ المرح.
قليل من المرح مقابل سنوات من المرارة، أستحق ذلك على الأقل، ألا تعتقد؟ لا يهم حقاً ما تعتقده، الريشة فوق قبعتي تخصني بشكل أصيل. أرتدي القبعة، مفرداتي الساحرة، الموسيقى التي أحبها ــ ولن تفهمها ــ أرتدي كل تفاصيلي... فالريشة فوق قبعتي لم تعد ملوثة بحبك ولا حتى بدمك.
تركنا المقهى للشارع صامتات، ربما حملنا ترقب الفريسة اللذيذ، والأكيد أن حمل ثلاثتنا فضولٌ مشترك، تُرى من منهن ستباغت أولاً، في مرّتكَ القادمة؟
* كاتبة مصرية
* النص رسالة من سلسلة «رسائل غضب السيدة قاف»