في جونية خُطف منذ سنوات الخليج؛ خليج جونية. أتت مجموعة أشخاص كاشفين عن وجوههم في ضوء النهار كمموا فاهه بأشرطة شائكة وأغلقوا عينيه بمصبات المجارير وخطفوه. خطف الخليج ولم يعلق إعلان واحد على جدران المدينة يقول إنه خرج ولم يعد، أو يسأل من يعرف عنه شيئاً الاتصال بأحد الأرقام. وفي وقت كان فيه الاغتصاب العلنيّ لمن كانت توصف بعروس الشاطئ يتواصل، كانت آليات ضخمة تقضم أجزاءً من الجبل الأخضر المظلل للمدينة لتشييد خزانات مياه بشعة ومجمعات سكنية وفيلّات وقصور. وبين البحر والجبل، امتد صف طويل من جبّالات الباطون التي تفرغ حمولتها على جانبي الطريق فوق البيوت اللبنانية التقليدية، تهدّ سقفاً قرميدياً عالياً تلو الآخر.
كان لدى أهالي جونية والمقيمين فيها شاطئ وغابة؛ ملك عام لكل الأهالي من دون استثناء، قرر أحدهم أن يستولي عليه. سلبهم شاطئهم والمساحات الخضراء، وأمرهم بدفع خوّات لدخول منتجعاته كلما قرروا الترويح عن أنفسهم. والجريمة المرتكبة بحق الخليج هنا لا تحتاج إلى لجان استقصاء. يكفي المواطن أن يركن سيارته في السوق ويجد منفذاً إلى الشاطئ الواقع بين جدار النفايات وجدار أصحاب المنتجعات لحمايتها من أمواج البحر التي كان الشعراء يتغزلون بها. والشعراء الذين يتبنى رئيس المجلس البلدي أنطوان افرام أشعارهم حين يتحدث عن المدينة كانوا يصفون خليجهم بأجمل شواطئ المتوسط، فيما أبناء المدينة يسافرون ويذهبون ويجيئون ويقارنون متأكدين من عدم وجود جريمة أبشع على طول شواطئ المتوسط من الجريمة اللاحقة بشاطئهم. ولا شيء يوازي عشوائية الشاطئ بشاعة إلا عشوائية البناء. فبدل الحفاظ على ما صمد من طابع تراثي للمدينة، بدأ غزو البنايات. جونية بُنيت على نمط العمارة الأوروبية في أوائل القرن التاسع عشر، إلا أن الشرفات المطلة على المدن الأوروبية تظهر تناسقاً في البناء والألوان والمسافات والمساحات الخضراء، أما المنظر من تلفريك حريصا فيبين مجموعة أحياء سكنية مكتظة بالباطون. ولا يخضع تشييد المجمعات السكنية لأية دراسات جدية تتعلق بقدرة شبكات المياه والكهرباء والإنترنت والمجارير على الاستيعاب، إضافة إلى الطرقات. فأهالي المدينة والساكنون فيها كانوا يفاخرون بتوسطها "العالم كله"، لكن الدخول والخروج من المدينة بات يتطلب معاملة خاصة، فيما السير متوقف معظم ساعات النهار في عدة شوارع داخلية. ومن يجد موقفاً لسيارته حين يعود من العمل إلى منزله سيكون محظوظاً، فالمصارف والمدارس والمتاجر والسرايا والبلدية وغيرها تتصرف باعتبار الطرقات العامة والأرصفة مواقف عامة. والأسوأ من هذا كله فوضى الكباريهات وبيوت الدعارة وشوارع السهر. يفاجأ من يشتري شقة سكنية بافتتاح كباريه في الشقة المقابلة لشقته أو تحته أو فوقه، مع ما يحيط بشبكات الدعارة من شبكات مخدرات وزبائن وسكارى في الأماكن العامة.
يفترض أن يكون الشرط الأول لتنازل حبيش عن رئاسة البلدية هو فوزه برئاسة اتحاد بلديات كسروان
علماً أن الشبكات التي أوقفت أخيراً تعمل في وضح النهار، في منازل وسط أحياء سكنية مكتظة، وهي تفتح أبوابها منذ ساعات الصباح الأولى. ووسط هذا كله، يفاجئك طريق مقفل خصصته البلدية لتجميع النفايات التي تفوح رائحتها في المدينة التي يروي المجلس البلدي نفسه على موقعه أن ذاكرة زوارها كانت تعبق برائحة زهر الليمون.
المسؤول الرئيسي عن أحوال العاصمة الكسروانية في السنوات الست الأخيرة هو رئيس جمعية الصناعيين نعمة افرام. فعام 2010 وقعت جميع القوى السياسية لافرام شيكاً على بياض. لبس العونيون والقوات والكتائب ما فصّله افرام، من دون نقاش يذكر. كان الشيك باسم نعمة، وهو قرر تجييره لعمّه أنطوان افرام الذي لم يكن كثيرون قد سمعوا به. هكذا اقترع المحازبون لافرام، ومعهم كل المراهنين على إنتاجية المستقلين بعد خيبتهم من إنتاجية الأحزاب، والمؤمنين بأن نجاح افرام في الأعمال سينعكس نجاحاً في الشأن العام. فالرجل الواعد بتحويل النفايات إلى كهرباء قادر على النهوض بمرفأ المدينة وسوقها وحل أزمة السير والمشاريع السكنية والمياه والفوضى الأمنية وغيره. وكل من علم بعلاقة افرام الوطيدة بالنافذين في السلطة ضاعف رهانه، فجونية في نهاية الأمر أقرب من جبيل إلى بيروت، وسوقها كما شاطئها أكبر بكثير، وفيها عناوين استثنائية للسياحة الدينية؛ لا شك أنها قادرة على مزاحمة بيبلوس وتجاوزها. إلا أن الأمور سلكت منحى آخر متخلفاً بالكامل. افرام انشغل فور فوزه البلديّ بالنيابة والوزارة ورئاسة الجمهورية. وسرعان ما لزّم المجلس البلديّ الأنشطة الرئيسية، من دون مناقصة، لشركة خاصة هدفها الربح لا إرضاء أهل المدينة. ورغم اختيار افرام بنفسه أعضاء المجلس من دون تدخل من أحد، بدأت تظهر التناقضات بينهم وبلغت في النهاية حد تموضعهم في ثلاث مجموعات لا تكاد تتكلم الواحدة مع الأخرى إلا عند الضرورة. علماً أن رئيس المجلس قال غداة انتخابه رئيساً إن "العمل البلدي الصحيح عمل جماعي يتطلب مشاركة فعّالة وتضحية من كل فرد". أما الناخبون الذين يفضلون البيوتات السياسية على الأحزاب باعتبارهم قادرين على طرق أبوابها ساعة يشاؤون ففوجئوا بمندوب افرام الأعلى يطبق سلوكيات أميركية في تعامله مع وظيفته والمواطنين، مفترضاً أن جونية تقع في إحدى ضواحي نيويورك. تواصله مع المواطنين يكاد يكون محصوراً بالبريد الإلكتروني، وبإنجازاته التي يعدّدها شهرياً على موقع إلكتروني. وأمام تتالي الفاجعات، لم يكن ينقص أهالي المدينة سوى تكرار نعمة افرام في مجالسه الخاصة غسل يديه من أداء عمّه. والأمر هنا أشبه بقول أحد الزعماء إنه غير مسؤول عن أداء من سماهم وزراء. تقتصر إنجازات آل افرام في رئاسة المجلس البلدي على إنشاء بضعة أرصفة، مدّ بعض القساطل، تزييح الزفت كممرات للمشاة، تأهيل أكثر من درج، تجميل أكثر من حائط واستحداث أكثر من مكبّ للنفايات. وهي جميعها أقل بكثير من أن تسمح لافرام بتجاوز سائر المرشحين في حال وقوفه عليها؛ لا بل هي أشبه بثقالات تشده نزولاً عشية هذه الانتخابات. ومع ذلك، يقدم افرام نفسه مرة أخرى هذه الأيام باعتباره "أبو التوافق وأمه" في المدينة وصاحب المشروع الإنمائي والمظلة التي تحتضن الجميع. وهو حين ينظر في المرآة يرى فريد هيكل الخازن وفريد الياس الخازن ومنصور البون وجيلبرت زوين وميشال عون وميشال سليمان وسمير جعجع. ماذا يجمع كل هؤلاء حتى يتوافقوا في ما بينهم؟ نعمة افرام يؤمن بتوافقهم عليه. بينه وبين نفسه يؤمن بإمكانية توافقهم عليه مرشحاً إلى رئاسة الجمهورية، فكيف الحال ببلدية جونية؟ إذا حصل التوافق سيقول إن التوافق على رئاسة بلدية جونية خطوة في اتجاه التوافق على رئسة الجمهورية. علماً أن من حق افرام الحلم، فغالبية القوى السياسية لم تعلمه بحقيقة موقفها بعد. وهو موقف يحتاج 48 ساعة ليتبلور بشكل نهائي بحسب معلومات "الأخبار". ويرتبط بشكل رئيسي بتيقن القوى السياسية من حصول الانتخابات أو عدمه. فلا العونيون ولا القوات يريدون القطع مع آل افرام في حال عدم وجود انتخابات. لكن، قبل حسم الموقف، يمكن القول إن مزاج الأحزاب ـ القوات والعونيين ـ لا يميل إلى افرام. وأسبابهم كثيرة: هو أولاً مقرب جداً وأشبه بالوجه المهذب لعديله النائب السابق فريد هيكل الخازن، والخازن رأس الحربة الكسروانية للمرشح إلى رئاسة الجمهورية سليمان فرنجية. وهو ثانياً مرشح إلى رئاسة الجمهورية سيضع فوزه برئاسة البلدية في سياق إثبات نفوذه المسيحي. وهو ثالثاً يتعامل مع الانتخابات البلدية كما يتعامل أصحاب الشركات مع الصفقات فيتوددون لشركائهم المفترضين ويغدقون الوعود عليهم حتى يوقعوا العقد فيظهر صاحب الشركة وجهه الحقيقيّ. وهم جربوه رابعاً في عدة استحقاقات سابقة، خرجوا منها جميعها خائبين. والأهم خامساً، بالنسبة إلى العونيين، هو نية جوان حبيش الترشح إلى الانتخابات البلدية؛ الأمر الذي يريحهم من أحد مرشحيهم الجديين السبعة على المقاعد النيابية الأربعة، ويحول دون تراخيهم في موضوع التسوية من جهة أخرى. فإذا قرر الجنرال إعطاء افرام فرصة التسوية، ستكون تسوية مشرفة لحبيش، له وللتيار الوطني الحر فيها ما لافرام وأكثر. علماً أن خوض التيار معركة في جونية وفوز حبيش يحتم خوضه من موقع قوة معركة اتحاد بلديات كسروان، ويفترض أن يكون الشرط الأول لتنازل حبيش عن رئاسة المجلس البلدي هو فوزه برئاسة اتحاد بلديات كسروان. هذا إذا رغب افرام في عقد اتفاق حقيقي، لا الحصول مجدداً على تفويض مطلق من القوى السياسية لفعل ما يشاء. وخلاصة النقاشات المختلفة بشأن بلدية جونية تفيد بأن باب التسوية لم يغلق بعد، ولا أحد يرغب في إغلاقه. لكن في حال إغلاق باب التسوية، فإن معركة استثنائية ستشهدها عاصمة قضاء كسروان. والسؤال الرئيسي المتداول اليوم يتعلق بخوض افرام المعركة في حال حصولها أو هروبه كالعادة. فالتجارب السابقة تفيد بأن نعمة افرام مرشح توافقي أو غير مرشح، فهو لا يخوض انتخابات بالمعنى الديموقراطي الطبيعي للكلمة. وكما أدار ظهره للانتخابات النيابية حين فتح باب الترشح عام 2013 إثر اكتشافه أن العونيين لن يتركوا لقامته الكبيرة مقعداً فارغاً سيدير ظهره هذه المرة. وعندها ستكون المعركة الكسروانية واضحة ومن دون أقنعة أو قفازات، بين ميشال عون وسمير جعجع والنائب السابق منصور البون ممثلين جميعاً بجوان حبيش من جهة، وسليمان فرنجية ممثلاً بفريد هيكل الخازن من جهة أخرى. وهي لا شك ستكون المعركة الأبرز في الانتخابات البلدية المقبلة، لا لعلاقتها بصراع عون وفرنجية، إنما لما ستحمله المناظرات غير المباشرة بين الخازن والبون من غمز وعقص وحفر وتنكيت، بدأت بشائرها بما يُحكى عن استحصال البون على ترخيص لإقامة مزرعة بقر، في الطبقة الرابعة من مبنى في ساحة جونية، تُنقَل فيه الأبقار بـ"الأسانسور".