ليست ثنائية التكامل بين القلم والسيف، وحدها ما يجمع بين جبران تويني وفرانسوا الحاج. فضلاً عن الموت غدراً، أو ما يصير في البال والتاريخ استشهاداً. يكفي أن المجرم، أو هما الشهيدان من اختارا أن يرحلا في اليوم نفسه، بفارق عامين فقط، بين 12 كانون الأول 2005 ومثله من العام 2007. لكن الجوامع بين الرجلين تبدو أكثف دلالات ومغازي، في تفاصيل الرحيل. حيث تكمن كل الشياطين.
رحل جبران بعد أشهر على إنجاز معركة السيادة. معركة كان هو في صلبها، قبل أن تنطلق. لا بل قيل إن "جريمته" أنه كان من روادها. منذ أطلع "نهاره" مصدرة بكتابه المفتوح إلى الرئيس السوري. بعدها تحول الثائر الدائم رمزاً من رموز المعركة ضد الوجود العسكري السوري في لبنان. من نداء بكركي إلى قرنة شهوان وصولاً إلى 14 آذار، صار أيقونة يتطلع إليها الملتحقون بالمعركة متأخرين. خصوصاً ممن فتح لهم بقسمه باب المعركة السيادية من دون طائفة، ولا مذهب، ولا حسابات من انتفع من الاحتلال ومن دفع ولا يزال. وتحول جبران ذاك العلم الذي يجذب الشريحة العمرية الأكثر تأثيراً في الشارع والأكثر إقلاقاً للمحتل. كان مع قلة أمثاله، ممثل الشباب في تلك المعركة. الذين يقدرون وإن لا يعرفون. والذين ينجزون وإن لا يقطفون...
ومثله رحل فرانسوا. بعد أشهر أقل على إنجاز معركة سيادية أخرى، ليست أقل شراسة، وإن أقل انتشاراً في الجغرافيا. سقط لواء الشهداء بعد ثلاثة أشهر وأيام على معركة نهر البارد. تلك المواجهة القاسية مع إرهاب وحشي. معركة كتبت باسمه، كما تكتب دورات القسم بأسماء الشهداء الكبار. حملها هو حياً، قبل أن يحملها ميتاً مغدوراً شهيداً. وفي تلك المعركة كان فرانسوا الحاج رمزاً من رموزها الكبرى. تخطيطاً وإدارة ومتابعة تنفيذ ونصر.
هكذا جمع بين جبران وفرانسوا، لحظة اغتيال كل منهما، انطباع أنهما سقطا شهيدي معركتيهما. فكرة أنهما اغتيلا ثأراً وانتقاماً وحشياً، من العدوين اللذين هزماهما. كل في معركته. كل بسلاحه. صار لكل من الجريمتين حكمها المدموغ في الأذهان سلفاً. وصار لكل منهما مجرمها، وجناتها، والمحرض والمخطط والمنفذ حكم القتل، بلا أي محكمة ولا حكم عدالة. أن الذي قهره جبران بكلماته، غدره بإجرامه. وأن الذي هزمه فرنسوا بجنوده، أرداه بجبانته. النظام السوري قتل جبران. والأصولية الإسلاموية قتلت فرانسوا. هكذا ارتاحت النفوس إلى مخيلتها، ومضت الأيام، من دون خبر مغاير. كأنما المجرمين ومن معهم، والشهيدين ومن لهم، قد ارتاحوا جميعاً إلى الخلاصات، تاركين العدالة لأرض أخرى أقل موتاً وأكثر عدلاً.
لكن جوامع أخرى مكملة، كتلك التي ربطت الرجلين في حياتهما ونضالهما، استمرت لتصل بين الشهيدين في رحيلهما. جبران سقط بعد ساعات على عودته سراً من السفر. وفرانسوا سقط وهو ينتقل من بيته إلى بيته. عودة جبران السرية ليلاً، كان يفترض أن تشكل له حصانة أمنية. تماماً كما انتقال فرانسوا في منطقة عسكرية مقفلة بالكامل لسلاحه ورفاقه، كان يفترض أن تؤمن له الحصانة الحمائية المماثلة والكاملة. اغتيال جبران، في التفاصيل والوقائع والاستنتاج، ما كان ليتم، لولا خرق أمني كبير. واغتيال فرانسوا في مربع خاص بالجيش اللبناني ما كان ليحصل، لولا فرضية اختراق أمني مماثل. لا يمكن لسيارة جبران الجانية أن تكون قد ركنت في تلك الطريق الفرعي الضيق، إلا قبل عبوره بلحظات. ولا يمكن لجناة فرانسوا أن يتنقلوا إلى بعبدا ومنها، إلا عبر طرقات مرصودة محمية مراقبة ومحصية الحركات والأنفاس. لغزان كبيران خلف الشهيدين الكبيرين، أبسط دلالاتهما أن وراء الجريمتين الكبيرتين مجرمين كبيرين.
بقي جامع واحد، هو الأكثر غرابة بين الشهيدين. أن لا جريمة اغتيال جبران وصلت إلى المحكمة التي أقامها الفريق الذي ناضل معه الثائر. ولا جريمة اغتيال فرانسوا بلغت قوس المحكمة التي انتسب البطل إلى سلكها. فلا المحكمة الدولية وضعت يدها على جريمة 12 كانون الأول 2005. ولا القضاء اللبناني، عسكرياً أو عدلياً، تمكن من فتح محاكمة لمن غدروا بفرانسوا الحاج في 12 كانون الأول 2007. محكمة لاهاي الخاصة بلبنان، رغم مئات ملايين دولاراتها وآلاف أشخاصها وشهودها، لم تبن ملفاً لجبران. ومحاكم لبنان، رغم أجهزة دولته وإنجازات معلوماتها ومخابراتها، لم تصل إلى مشتبه به واحد في ملف فرانسوا. كأن لاهاي تعيش وترتزق على قاعدة أن في لبنان شهيداً واحداً. وكأن آليات العدالة والقضاء في لبنان، لا تزال تصحو وتنام على معادلة أن فرانسوا الحاج، شهيد آخر سقط في أرض المعركة في نهر البارد. حيث هرب أو هُرب شاكر العبسي. وحيث ولدت تهريبة رئاسية، فكان هروب من الحقيقة وتهرب من قسم عسكري بقسم دستوري أو بوهمه وطمعه.
أهم ما يجمع جبران وفرانسوا اليوم أنهما استشهدا في بلد يغتال شهداءه والعدالة والحقيقة كل يوم.