«حتمية» وجود الإرهاب، بكافة أشكاله الدينية والإيديولوجية، أكسبت الأسواق المالية والمستثمرين حول العالم مناعة كبيرة. إذا أردنا الاستعارة من الطب، يمكن ربط العلاقة بين الإرهاب والأسواق المالية باللقاح. الأخير يكسب الجسم مناعة رغم أنه مستخرج من الجراثيم التي تسبِّب المرض. وبالمثل، أكسبت «جراثيم الإرهاب» البنيان الاقتصادي والمالي حصانة تمكّنه من مكافحتها.
الدم البارد للأسواق

يشكل المجال النفسي والبسيكولوجي ميدان اللعب المفضّل للإرهابيين الذين يسعون إلى استغلال عوامل الخوف والرعب لتحقيق أهدافهم. لكن «التاريخ» يفيد بأن «نفسية» الأسواق المالية أصبحت، مع مرور الوقت، أكثر قدرة على التأقلم مع المخاطر الأمنية. وللعقلية البراغماتية للمستثمرين دور مهم في تكيّفهم السريع، مقابل طغيان النواحي العاطفية على عامة الناس. وربما كان لجمود الأرقام أثر في الصلابة التي تبديها الأسواق في أوقات الأزمات.
للفعل الإرهابي ومداه تأثير لافت في كيفية تعاطي الأسواق. يعتقد البروفيسور تود ساندلر، من جامعة تكساس، المتخصص في دراسة الآثار الاقتصادية للإرهاب أنّ هذه الاعتداءات لكونها تعدّ «صغيرة ومحدودة جغرافياً وغير ممتدة على فترة زمنية طويلة، فإن أثرها يبقى بسيطاً». وبالتالي، لكي تكون للأعمال الإرهابية نتائج طويلة المدى على الأسواق المالية والاقتصاد، يفترض أن تكون متكررة، ثابتة وغير منقطعة، وفي الإجمال أن تستهدف منطقة معيّنة، وهو ما تفتقر إليه الهجمات الإرهابية التي ضربت بروكسل، وقبلها باريس ومدريد ولندن والولايات المتحدة.
وبيّنت دراسة بعنوان «الإرهاب والاقتصاد العالمي»، للباحثين في جامعة هارفرد ألبرتو أبادي وخافيير غارديازابال، كيف أثر العنف في منطقة الباسك في إسبانيا باقتصادها. إذ أدّى الصراع إلى وجود فجوة تعادل 10% بين نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في إقليم الباسك وبين مناطق إسبانية لم تشهد أي اضطرابات طوال عقدين من الزمن. ويعود ذلك، إلى حدٍّ كبير، إلى أن الأعمال الإرهابية ركّزت على أهداف صناعية.
أثر العمل الإرهابي في الأسواق المالية يراوح بين أيام معدودات إلى 10 أيام وفي أقصى الأحوال 30 يوماً

ويلعب حجم اقتصاد دولة معينة ومدى تنوعه دوراً أساسياً في قدرته على تخطي أي عمل إرهابي بسرعة وبأقل ضرر ممكن. وتظهر دراسة لتود ساندلر ووالتر أندرز عن الآثار الاقتصادية للإرهاب في الدول النامية والدول المتطورة أن الاقتصاديات الصغيرة التي تكون عرضة لاعتداءات إرهابية مركزة تعاني بنحو أكبر. كذلك يُسهم تنوع الاقتصاد وتعدد القطاعات الفاعلة في القدرة على امتصاص وقع الصدمة، وفق ما كشفت دراسة لصندوق النقد الدولي عام 2005.
فعلى سبيل المثال، شهدت البورصات الأوروبية هبوطاً فور وقوع اعتداءات بروكسل الشهر الماضي. ولكن، عند نهاية اليوم، أُغلقت البورصات في كل من لندن وباريس وبرلين ــــ وحتى في بلجيكا ــــ على نمط إيجابي. النتيجة نفسها سُجّلت عقب الاعتداءات التي شهدتها فرنسا أخيراً. فبعد هبوط مؤشر البورصة 1% عاد بعد أيام ليرتفع بمعدل 2.3%.
وتبين الدراسات والتحليلات أن أثر العمل الإرهابي في الأسواق المالية يراوح بين أيام معدودات و10 أيام، وفي أقصى الأحوال 30 يوماً. ويظهر تقرير للمحلل الاستراتيجي في PNC Asset Management Group بيل ستون، عن انعكاسات أعمال إرهابية منذ عام 1979 على اقتصاديات دول عدة، أن الأسواق المالية كانت تحتاج إلى 10 أيام فقط كي تعود إلى سابق عهدها.

متضررون ومستفيدون

يظهر مما تقدم أن تأثير الأعمال الإرهابية يقتصر على إحداث «تأجيل» بسيط في عادات الناس الذين سرعان ما يعاودون نشاطاتهم الاستهلاكية بعد فترة قصيرة. ومن المهم الإشارة إلى أن التسوق الإلكتروني وانتشاره المتسارع حول العالم يساعد على الحدّ من صدمة الفعل الإرهابي. إذ يبقى في إمكان الناس التسوق وشراء ما يلزمهم عبر الإنترنت من دون الحاجة إلى التوجه إلى مكان الحادث أو إلى أماكن معينة قد تكون عرضة لهجمات مستقبلية.
إلا أن محدودية نتائج الإرهاب على الأسواق المالية، سواء زمنياً أو عملياً، لا تلغي واقع أن بعض القطاعات قد تخضع لارتدادات أكبر من غيرها، وأن البعض الآخر قد يستفيد، ولو مرحلياً.
لا يمكن تعميم ضرر الإرهاب بنحو مطلق حتى ولو تأثر الاقتصاد الكلي للدولة بنحو عام جراء أي خضة أمنية. ففي دراسة نشرت عام 2010 بعنوان «تأثير الإرهاب على القطاعات الأميركية»، ظهر تباين كبير من حيث تأثير أحداث 11 أيلول 2001 على 135 قطاعاً اقتصادياً في الولايات المتحدة. وتبيّن أن قطاعات الأمن والاتصالات والمياه استفادت من الأحداث، فيما شهدت قطاعات النقل ــــ وخاصة الجوي ــــ وأماكن الترفيه والسياحة تدهوراً ملحوظاً.
ولكن، حتى السياحة التي تعدّ أكثر المتضررين عند وقوع العمل الإرهابي، خصوصاً إذا كانت تشكل دعامة أساسية للاقتصاد، فإنها لا تلبث أن تتخطى الحدث. فقد كشفت دراسة لـ «المجلس العالمي للسياحة والسفر» أن القطاع السياحي يحتاج نحو 13 شهراً لاستعادة عافيته بعد أي عمل إرهابي، وهي مدة أقل بكثير من الوقت الذي يحتاجه القطاع في حال انتشار وباء معين (21 شهراً)، أو حدوث كارثة طبيعية (24 شهراً)، أو غياب الاستقرار السياسي (27 شهراً). إلا أن الأمر يبقى مرتبطاً بمتانة المؤسسات السياحية وقدرتها على الصمود طوال هذه المدة إن أخذنا في الاعتبار هذه الأرقام.
وبطبيعة الحال، يتأثر قطاع النقل، بحكم ارتباطه بالسياحة، كثيراً بسبب الأعمال الإرهابية.
يبقى أكبر المستفيدين من المأساة قطاع الأمن. إذ ترتفع أسهم الشركات الأمنية، التي لا تقتصر على تلك المصنعة للأسلحة والآليات والمعدات العسكرية والأمنية، بل تشمل أيضاً الشركات التي توفر خدمات الحماية. واللافت أنه، في ظل عدم إمكان القضاء على الإرهاب نهائياً، تلقى أسهم هذه الشركات إقبالاً متزايداً من المستثمرين الذين يجدون فيها ربحية لا تنقطع وإن طالت لبعض الوقت. ويشار هنا إلى موجة الهوس الأمني والاستخباراتي التي ضربت الولايات المتحدة بعد 11 أيلول، وطفرة الشركات الأمنية التي أسفرت عنها، ولجوء معظم الدول التي تعرضت لاعتداءات إلى تحصين نفسها أمنياً والاستثمار أكثر في القطاعات الأمنية والعسكرية وتعزيزها.
في السياق عينه، وبحكم الترابط بين الأمن والاتصالات، يترافق الإقبال على القطاعات الأمنية بموجة من «الحج» إلى قطاع الاتصالات بهدف تعزيزه وتمتينه وكشف أي ثُغَر مستقبلية. وبعيداً عن الإرهاب الذي يأخذ أشكالاً دموية، قد تكون عمليات التجسس الإلكتروني والقرصنة الإلكترونية أشد فتكاً من النواحي العملية، ما يستلزم ضخ الأموال وجذب الطاقات لتدعيم أسس هذا القطاع المحوري، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً.
ولا يسعنا هنا، أيضاً، غض النظر عن معدن الذهب الذي له «في كل عرس قرص». فرغم أن الإقبال على الذهب قد يكون محدوداً زمنياً عقب وقوع العمل الإرهابي مباشرة، إلا أن هذه الهجمات كفيلة برفع أسعار المعدن النفيس باعتباره ملاذاً استثمارياً آمناً، بنحو كبير وبسرعة، ما يشكل فرصة ينتظرها الكثير من المستثمرين والمتداولين في البورصة. أما قطاعا النفط والغاز، فإن تأثرهما بحدث إرهابي معين في الإجمال يبقى معدوماً أو بسيطاً جداً، خصوصاً إذا كان الحدث ظرفياً. أما في حالة نزاع عسكري أو احتمالية نشوب نزاع مسلح، قد يهدّد منابع النفط والغاز أو الطرق البحرية والتجارية التي تمرّ عبرها كميات كبيرة من النفط والغاز, ففي هذه الحال تكون النتيجة ارتفاعاً في الأسعار، من دون أن نتجاهل عامل العرض والطلب المحوري.
العبرة الأكيدة التي يمكن استخلاصها من صمود الأسواق المالية أمام الهجمات الإرهابية وقدرتها السريعة على التعافي أنه مهما كان شبح الموت كبيراً، فإن الغلبة في النهاية للأمل... والحياة تستمر.