رام الله ــ الأخبار

لا يفوّت رئيس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، ظهوراً إعلامياً إلا يجعل منه مناسبة لتأكيد «قدسية التنسيق الأمني، وعمق العلاقة مع الشعب الإسرائيلي»، دون أدنى اكتراث لمشاعر الملايين ممن يفترض أنهم أبناء شعبه، بل يذهب أبعد ما يكون في سبيل استجداء المجتمع الإسرائيلي كأنه مجتمع ملائكي لم يمعن ويقبل قتل وتشريد وتعذيب الفلسطينيين، أقله كما حدث مع الطفل المقدسي أحمد مناصرة، والشاب المصاب عبد الفتاح الشريف، الذي أعدمه أحد الجنود، قبل أيام، برغم أنه كان مصاباً ولم يمثّل أي خطر عليه.
هذا المشهد صورته كاميرا ناشط فلسطيني، ولكن السائل كان مراسل القناة العاشرة الإسرائيلية. ولو كان صحافياً فلسطينياً، فربما كان «أبو مازن» قد أمر باعتقاله، كما يحدث مع كثيرين، لأنه أحرجه أمام الصحافة.
لم يسأل أحد في السلطة نفسه لمَ صارت «انتفاضة القدس» ساحة مفتوحة للإعدامات، ولم لا ينجح عدد كبير من العمليات ، ثم يخرج عباس لينظّر وليتبجح بأن الانتفاضة جلبت الدمار للشعب، وهو الذي يمنع العمليات ويصادر الأسلحة ويعدم أي أمل في حدوث انتفاضة حقيقية.
فأي رئيس للسلطة يهدّد بتركها ليل نهار وهو يضع اللمسات الأخيرة على قصره؟ وبينما يعِدُ بمنع أي انتفاضة مسلحة، لا يزال يفتتح المزيد من المشاريع الاقتصادية ويطلب من مستثمري العالم أن يأتوا لتشغيل أموالهم في الضفة.
أسطوانة السلطة المشروخة والمستهلكة في الإجابة عن «قداسة التنسيق»، أننا «سلطة تحت احتلال، والتنسيق ضرورة ملحة لتسيير حياة الفلسطينيين». ومع أنه قبل اندلاع «انتفاضة القدس» كان هؤلاء أنفسهم يلوحون بوقف التنسيق، فإن ما كانوا ينطقون به، كانت عيونهم تكذبه.
من البداية، طرح السؤال عن كيفية وقف التنسيق «المقدس» والمصالح الاقتصادية والامتيازات الخاصة التي يتمتع بها رموز السلطة وعائلاتهم (مثل بطاقات الـ VIP) ستصير في مهب الريح؟ أصلاً، هل سيستطيع أحد مسؤولي السلطة أن يكابد عناء الانتظار على الحواجز أو معبر الكرامة كسائر الناس... أم سينتظر «موسم رمضان» ليتمكن من زيارة القدس باسم «التسهيلات» الإسرائيلية؟
لم تعلق السلطة أو تنف الأنباء عن مشاركتها في نقل يهود اليمن

على مدار الأيام الماضية، ضجت المواقع الإخبارية الفلسطينية بالصور عن زيارة وفد رسمي فلسطيني إلى بيت عزاء قائد «الإدارة المدنية» الإسرائيلي في الضفة المحتلة، الضابط الدرزي منير عمار، الذي توفي بحادث تحطم طائرة حينما كان يمارس هوايته المعتادة. قاد وفد العزاء عضو اللجنة المركزية لحركة «فتح»، محمد المدني (رئيس لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي في منظمة التحرير)، وذلك في قرية جولس، شمال فلسطين المحتلة، وبالتزامن مع الذكرى الأربعين لإحياء «يوم الأرض»!
وبرغم أن السلطة لا تخجل من الحديث عن تعزيتها بعمار، في ظل تقصيرها المعروف والقديم مع أهالي الشهداء ومعاناة المقدسيين، فإنها لكل شيء تجد مبرراً. ليس هذا فقط. ترافق مع زيارة التعزية تسريب نشره موقع «انتيليجينيس اون لاين» الفرنسي المتخصص في الشؤون الاستخبارية، عن تعاونٍ وثيقٍ للغاية بين جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)، وجهاز «الأمن الوقائي» الفلسطيني، إلى حدّ أن ممثلي الطرفين عقدا ثمانين لقاء سريا، على الأقل، خلال العام الأخير.
وذكر الموقع، أيضاً، أن أمن السلطة أحبط ما لا يقل عن 58 عملية فدائية على أهداف إسرائيلية، وضبط كميات كبيرة من الأسلحة والمتفجرات، وأن الاعتقالات التي ينفذها تجري على ضوء المعلومات الاستخبارية الإسرائيلية، وهو ما لم تنفه المؤسسة الأمنية الفلسطينية برغم مرور أيام عليه. واللافت أكثر أن من يسارع إلى تأكيد استمرار هذا التنسيق وقوته المواقع والمصادر الإسرائيلية في غالبية الأحيان.
إذن، كيف يمكن تصديق الرواية الرسمية لرموز السلطة بأن التنسيق الأمني مصلحة فلسطينية لا لحماية إسرائيل، في الوقت الذي لا يتوانى فيه العدو ليل نهار عن انتهاك «السيادة» الفلسطينية للمناطق المصنفة (أ) وفق اتفاق أوسلو، وتجري فيها عمليات دهم واعتقال وتخريب وقتل.
ومن مظاهر هذا التنسيق: إعادة المستوطنين والجنود سالمين إلى العدو اذا أضاعوا الطريق، واستهداف خلايا المقاومة في الضفة كـ«خلية سلواد»، التي اعتقلت السلطة عدداً من أفرادها من بينهم معاذ حامد، ثم جرى تسليمه للعدو تسليم اليد، إضافة إلى واقعة يهود اليمن التي قيل ان السلطة لها دور بارز في عملية استجلابهم إلى فلسطين المحتلة، فيما لم تنبس السلطة بكلمة واحدة حول هذه الحادثة، وهي التي كانت لا تسمح بمرور 24 ساعة لتصريح صادر عن «حماس» وإلا ترد عليه!
كذلك، فإن قيادات السلطة تجيد الخلط بين التنسيق الأمني، والتنسيق المدني الذي يجري لتسيير أمور الحياة للفلسطينيين، من ماء وغذاء وكهرباء ووقود. فالأخير، قد يكون «مشروعاً» في ظل ارتضاء السلطة أن يبقى الوضع الفلسطيني أسيراً للإسرائيليين بفعل بروتوكول باريس الاقتصادي، والتفاصيل الأمنية في اتفاقية طابا 1995؛ وإذا فرض أحد جدلاً أن السلطة كانت قد وقعت اتفاقاً تقع على عاتقها بموجبه «مسؤولية منع الإرهاب والإرهابيين (في إشارة إلى المقاومة الفلسطينية)، واتخاذ الإجراءات المناسبة بحقهم»، فإن ذلك مزقته جنازير دبابات أرئيل شارون عام 2002 حينما اجتاحت مدن الضفة وسيطرت عليها؛ وهو الحديث الذي لا ينكره عباس نفسه!
ثمّة، وفق مراقبين، عوامل كثيرة تدفع السلطة ورئيسها إلى التمسك بالتنسيق الأمني، منها أنه سلاح مزدوج بيد السلطة، فمن جهة يمكنها ملاحقة المعارضين لسياساتها في الضفة واعتقالهم. ولا يقتصر الأمر على تنظيم معين، فالكثير من أبناء «فتح» اعتقلوا وحوكموا وسحب سلاحهم بتهمة مناهضة السياسة العامة للسلطة. من جهة ثانية، ترى السلطة أن التنسيق الأمني مقياس دائم لإثبات جدارتها أمام حكومات تل أبيب وواشنطن.
إذن، التنسيق باقٍ ومستمر، ولا يمكن للسلطة وقفه مهما بلغ الاحتجاج الشعبي أشده، فمبررات وجودها قائمة على أدائها الأمني. كما أن رام الله لو فكرت مجرد تفكير بوقف التنسيق، فسيحرمها ذلك ما نسبته 80% من إيراداتها المالية، على اعتبار أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي هما أبرز الجهات المانحة للسلطة، وكلاهما معني بأمن إسرائيل. ومهما اختلفت أنواع التنسيق الأمني ومستوياته، فإن حال السلطة اليوم لا يتعدى كونها أنموذجاً أكثر تطوراً عن «روابط القرى» التي أنشأها مناحيم ملسون إبّان اتفاقات كامب ديفيد عام 1978، بالتحالف مع بعض الوجهاء والعائلات المحلية، وهو ما رأت فيها فصائل «منظّمة التحرير» آنذاك «خيانة».




لو أن ياسر عرفات حيّ!


برغم أن التنسيق الأمني مع إسرائيل ليس وليد اللحظة، فإن مرحلة الرئيس الراحل ياسر عرفات كانت أفضل بكثير من محمود عباس في ما يتعلق بهذا الجانب. ومع أن الدوريات المشتركة كانت تسير في المناطق المصنفة (ج)، فإن الحد الأدنى من السيادة الفلسطينية كان محفوظا في عهد عرفات. والأهم، أن رجال الأمن الفلسطينيين لم يتوانوا للحظة عن الاشتباك مع العدو في مختلف المواقع، وكان لهم حضور لافت في «هبّة النفق» عام 1996، ثم في انتفاضة الأقصى. وبعد ذلك جاء حصار عرفات في المقاطعة، وتدمير العدو مقارّ الأجهزة الأمنية واستهدافها.
وفي زمن عرفات، لمعت أسماء كثيرة من ضباط وجنود الأمن الفلسطيني كرموز للمقاومة الفلسطينية، منهم الشهيد نايف أبو شرخ، الذي كان ضابطا في جهاز المخابرات ثم الارتباط العسكري، قبل أن يقدم استقالته ويتفرغ لخدمة الأسرى عبر «نادي الأسير». ومع اندلاع انتفاضة الأقصى، أسس أبو شرخ ورفاقه ما بات يعرف بـ«كتائب شهداء الأقصى»، وكان مسؤولاً عن عدد من العمليات النوعية، قبل أن يستشهد بتاريخ 26/6/2004 برفقة مجموعة من قادة العمل المقاوم في نابلس.
أيضاً، كان يوسف ريحان (الصورة)، الملقب بـ«أبو جندل»، أحد رموز معركة مخيم جنين. كما كان ريحان أحد أفراد الأمن الوطني في مدينة بيت لحم، وخلال «هبة النفق»، اندلعت مواجهات في محيط مسجد بلال على أطراف المدينة، ونشب خلالها شجار بين ريحان وجنود العدو، فبادر بإطلاق النار عليهم ما أدى إلى مقتل جندي إسرائيلي، ثم آثرت السلطة نقله إلى جنين وهناك استشهد دفاعا عنها عام 2002.