البلدية قادرة على إيجاد حلول بديلة لمولدات الكهرباء الخاصة وموزعي الدش والإنترنت، ويمكنها دائماً استحداث سوق منظم للخضر واللحوم والأسماك وغيرها، وبوسعها تبني ودعم مجموعة مشاريع سياحية صغيرة تعود بالنفع على البلدة مجتمعة، ويمكنها التحكم بطبيعة الحركة العمرانية في البلدة، إضافة إلى تبني المدارس والمؤسسات الرسمية والمستوصفات التي تقع في نطاقها، والضغط على الوزارات المعنية بالمشاعات لاستغلالها في مشاريع إنتاجية تربح الأهالي.إلا أن المشكلة بدأت مع فوز مسؤولي الميليشيات السابقين والمقاولين والمتمولين الباحثين عن الوجاهة، برئاسة معظم المجالس البلدية منذ عام 1998. والنتيجة المرئية لعمل هؤلاء تكاد تختصر بـ: 1 ــ السكوت عن تحويل الجزء الأكبر من عائدات المجالس البلدية لحسابات شركة "سوكلين"، علماً بأن الامتناع عن الدفع عامين فقط كان سيوفر للبلدية المبلغ الكافي لإقامة معمل فرز للنفايات وتشغيله. 2 ــ صرف العائدات الباقية على بناء قصور بلدية لا أحد يفهم الحاجة الحقيقية لكل ضخامتها، علماً أن شراء مولد كهربائي وإدارته كان سيفيد أهالي البلدة والبلدية أكثر بكثير من ظاهرة القصور البلدية. 3 ــ إحلال المجمعات التجارية الضخمة التي تفيد بضع شركات كبيرة محل الأسواق التجارية الصغيرة التي تفيد كل أهالي البلدة. 4 ــ وضع شبكة خدمات يومية هائلة في تصرف مرجعياتهم السياسية. 5 ــ التنسيق مع سماسرة مجلس الإنماء والإعمار والهيئة العليا للإغاثة وصندوقي المهجرين والجنوب ووزارة الأشغال العامة والنقل من أجل إبقاء ورش العمل "شغالة" على مدار العام في بلداتهم. 5 ــ تكوّن مجموعة منتفعين حول رئيس البلدية، تضم غالباً الأعضاء وبعض الموظفين وشرطة البلدية وأحد المقاولين وصاحب المولّد الكهربائي والدش وغيرهما. 6 ــ تدمير الطابع القروي التراثي لغالبية القرى والبلدات بحكم الأذونات المعطاة لمخالفات البناء المختلفة التي حولت القرى إلى عشوائيات سكنية مكتظة بالباطون. وتبرز هنا أمثلة "فاقعة" في ساحل جبل لبنان، كالحازمية وساحل علما والكسليك.
أما الإنجاز الرئيسي الذي يفاخر رؤساء مجالس حاليون به، غير القصور البلدية الفارهة، فهو المهرجان الصيفي الذي توكل معظم البلديات تنظيمه إلى إحدى الشركات الخاصة، مكتفية بثلاث أو أربع حفلات فنية يمكن أي مطعم أن ينظمها، وهي لا تترك أي أثر اقتصادي أو اجتماعي أو فني في حياة البلدة. علماً أن بعض البلديات ــ أنطلياس مثلاً ــ تحوي في صناديقها مبالغ خيالية، لكن لا أحد لديه نية العمل لصرفها. ولا يمكن في هذا السياق تعداد أكثر من سبعة أو ثمانية رؤساء مجالس بلدية يمكنهم القول إنهم أنجزوا مشروعاً إنمائياً جدياً واحداً في مناطقهم، سواء أكان زراعياً أم صناعياً أم سياحياً أم بيئياً.
يمكن أي مطعم تنظيم حفلات فنية مماثلة لما تصفه البلدات بالمهرجانات الصيفية وتصنّفه ضمن إنجازاتها

إلا أن المشكلة الأكبر من رتابة رؤساء المجالس البلدية والغطاء السياسي والأمني والقضائي والإعلامي المتوافر لهم، هي فائض اللامبالاة الشعبية تجاه هؤلاء. ففي شكا، مثلاً، لا معركة انتخابية حتى الآن: لا أحد ينوي مزاحمة رئيس المجلس البلدي المعروف بتعاونه الوثيق مع كل الشركات المتهمة بإلحاق ضرر رهيب ببيئة المنطقة، علماً بأن الجريمة واضحة وعلنية. بوضوح أكثر: هناك من يطلب ممن يحفر له القبر أن يعمّقه أكثر. في البترون حيث السوق القديم والشاطئ والصناعات الحرفية والطرقات و"لمبات" الإضاءة وعقود النفايات وغيرها وغيرها من الملفات التي تخبر عن حجم الخيبة من المجلس البلدي، لا معركة جدية. عادة في طرابلس تفرض العناوين السياسية والمذهبية نفسها على جدول أعمال الناخبين، فلا يسألون عن مصلحة مدينتهم. لكن الاستحقاق الانتخابي المقبل يمكن أن ينتج فريقاً إنمائياً متكاملاً يأخذ أولويات المدينة بالاعتبار، ومع ذلك لا أحد يسأل أو يهتم؛ الكل ينتظر اجتماع رئيسي الحكومة السابقين سعد الحريري ونجيب ميقاتي لبتّ موضوع التحالف وتسمية أزلامهما أعضاء. وفي المتن الشمالي تحسن الوضع في بعض القرى، لكن في غالبية دويلات النائب ميشال المر، لا تزال الأحزاب الإصلاحية المفترضة تقف على باب الرياس المشهورين بفسادهم، متسولة بضعة مقاعد في مجلسه الكريم. في الجديدة ــ البوشرية ــ السدّ لا يجد رئيس المجلس البلدي أنطوان جبارة الذي استحدث مكبات للنفايات وسط الأحياء الشعبية وطافت نفاياته في شوارع البلدة مرشحاً جدياً واحداً يناوئه. كل من ذاع صيت إهمالهم للمدن الصناعية الواقعة في نطاق مجالسهم البلدية واستغلالهم في المقابل للمرامل والكسارات يكادون أن يفوزوا بالتزكية. وباستثناء حركة "مواطنون ومواطنات في دولة" التي تحاول تحريك الركود الشعبي، لا يمكن الوقوع على مرشح واحد يرفع صوته في هذا الاستحقاق ملوّحاً بملف جديّ أو قضية. علماً أن المواطنين في الزلقا، كما في المنصورية والحازمية والشياح وغيرها العشرات، يكررون الكلام نفسه عن "أين كان رئيس المجلس البلدي وأين أصبح؟"، وحين تسألهم عن موقفهم في الانتخابات المقبلة يجيبون بأنهم مع الريس ويبدأون التبرير التافه. فالآن لا يمكن أحداً القول إن ثمة معادلات دولية وإقليمية ومحلية ومالاً سياسياً وأخطبوطاً خدماتياً وغيره يمنع إسقاط المجالس البلديّة المحيطة بنا. حتى الحديث عن حسابات عائلية غير دقيق، فغالبية رؤساء المجالس البلدية المشكو من إنتاجيتهم لا ينتمون إلى عائلات كبيرة، وغالبية العائلات مقسومة. الأمر يتعلق بالناخبين فقط، وغالبية الناخبين لا يبالون بكل ما سبق: لا أحد يسأل مرشحه عمّا حقق مما وعد بتحقيقه قبل ست سنوات، ولا أحد يفكر في صلاحيات المجلس البلدي، ولا أحد يسأل نفسه عن مصلحته ومصلحة بلدته في تمثل ابن عمه في المجلس البلديّ. باختصار، لا أحد يبالي ولا أحد يعتبرها فرصة للتغيير أو التقدم خطوة إنمائية إلى الأمام.