ليس سهلاً أن تكون مسيحياً الآن. والأشد صعوبة وخطورة، أن تكون مسيحياً الآن هنا. مسيحيتك في هذا المكان، في دوائرها الجغرافية الثلاث: في الشرق، في لبنان وفي التزام سياسي واضح في سياق الأزمة اللبنانية الوجودية... صارت شيئاً من المغامرة بحياة كاملة، لا بل بحياة من ترتبط حياتهم بك.
لا يهم أي نوع من "المسيحي" أنت. في أنواعك الثلاثة، أزمتك هي نفسها: قد تكون من المسيحيين اللاهوتيين. من المؤمنين بكليانية الأرض والسماء، وبأن لإيمانك الفوقي مقتضيات دنيوية. وأن لمعتقدك القبْلي تجليات مقبلة. كأن تؤمن بأن رسالتك الحياتية هي أن تحقق "مشيئته كما في السماء كذلك على الأرض". وأن مملكته ــ وإن كان مصدرها ومنبثقها ليسا "من" هذا العالم ــ إلا أن ميدانها ومجالها ومداها "في" هذا العالم... أو قد تكون من المسيحيين السوسيولوجيين. أولئك الذين يجعلون من إيمانهم مجرد هوية أفقية. لا تسامي فيها ولا صعود ولا فوقيات. هوية فردية وجماعية معاً، لكن لسلوك اجتماعي وبعض عادات. من الاسم وآخر ما أمكن من ميزات شكلية وطقوس "طائفية"، بالمعنى اللغوي الأصيل للكلمة. أي طقوس مجموعة من الناس لا غير... أو حتى لو كنت من المسيحيين الكارهين لذاتهم. الذين أتعبتهم مسيحيتهم أو أنهكهم لاغوها. حتى صاروا ضدها فيهم وتحولوا أعداءها في ذواتهم. فانقلبوا عليها في نمط تصرف مرضي مهجوس ومهووس بنفي هويتهم ورفضها وشتمها... أياً كانت مسيحيتك، هي مخاطرة الآن هنا.
فأنت في النهاية في هذا الشرق الراهن. في شرق أبسط تعريفاته اليوم، أنه يقتل إنسانه. يقتل ذاته. ينتحر جماعياً بوعي وبلاوعي. شرق اخترع الموت بلذة. فما باله بالآخر؟ أو كيف به بك أنت ومقولات تنوعك وأوهام تعدديتك؟ لا مكان لك فيه. لا أرض ولا زمن ولا منزل ولا مجتمع ولا دولة. أكثر ما أنت فيه، أنك هنا مجرد عنق فارّ من وجه السكين.
ثم أنت في لبنان. في هذا "الشيء" الذي أضحى بلا أسس ولا مقاييس ولا أصول. حيث كل شيء ممكن ومعقول ومرجح أو حتى محتوم. أنت مسيحي في لبنان. هواء رئتيك الوحيد دولة. فيما الدولة ههنا قد تحولت توليفة هجينة بين مافيا وميليشيا وزمر كوميسيانجيي... مسيحي في لبنان أنت. حيث رجاؤك الوحيد ديموقراطية. فيما الديموقراطية عندك صارت شحطة قلم. مرسوم تمديد. أو همس سفارة. أو ميزان قوى في الخارج. أو كل شيء إلاها. فجوهر الديموقراطية خشبتان. واحدة لصندوق اقتراع. وأخرى لكشك الصحف. أنت اليوم في مكان كسر الخشبتين. أحرقتهما وتدفأت بهما نار أوليغارشية تخشاها الوحوش. الخشبتان اخترعتهما الديموقراطية للصوت. الاقتراع لصوت إرادتك والصحيفة لصوت فرادتك. كُمَّ الصوتان عندك. لم يعد أمامك غير الموت. موتك كإنسان هو الهدف. المهم لدى أوليغارشيي السلطة أن تموت ويموت صوتك... ولا من يسأل. الشرق ينبذك من هذا المكان. والغرب يجذبك. ومرجعيات إيمانك ووجودك تستعد لقداس القسطنطينية!
أنكى ما في مغامرة مسيحيتك الآن هنا ومخاطرتها، أن تكون على التزام سياسي بها. على عهد حرية وكرامة وحق وحقيقة. عندها أعد نفسك للاضطهاد المزدوج. واستعد للصلب اليومي. بلا محاكمة ولا مؤامرة. أنت مضطهد عفواً ودوماً. عليك أن تكون جاهزاً لكل الشتائم. ولكل الدسائس. ولكل العنف البنيوي ولو من دون صفعة. إن كتبت. وإن سكتت. إن صرخت وإن كتمت. إن صمدت أو هزمت. الحقد نصيبك. لا تسأل من أين يأتي. ولا كيف يتغذى. ولا إلام يهدف؟ المهم أنه هنا وأنه مطلق وأنه ملازم لكل ثانية من حياتك. يشتمك خصم نفدت حججه. أو حليف خالفته رأياً أو موقفاً. أو صاحب جيب نفطي الهوى ورأس سلطوي النوى. أو "رفيق" مستتر بلقب أو ألقاب فوق عطب أو أمراض...
أجمل ما في أن تكون مسيحياً الآن هنا، أنك تحيا تحقق النبوءات: طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم واضطهدوكم ... وأنه تأتي ساعة يظن كل من يقتلكم أنه يقدم لله قرباناً... وأنه سوف تسلمون من الوالدين والإخوة والأقرباء والأصدقاء، ويقتلون منكم...
السبيل الوحيد المتاح لأن تكون مسيحياً الآن هنا، بين جمعة الصلب وأحد القيامة، بين جلجلة الموت وقبر الانتصار عليه، هو أن تلبس يسوع الإنسان لا غير. يسوع التاريخي حصراً. أن تراه إنساناً مثلك. كل ما فعله أنه كان ثائراً. أنه كان رافضاً. غير مساوم ولا تسووي ولا انهزامي ولا خانع ولا خاضع. أنه واجه وانتصر باثنتين: حقيقة ومحبة. معجزته الكبرى كإنسان ربما، أنه عرف كيف يوفق بينهما. فلم يخن الحقيقة ليقبل الآخر. ولم يحقد ليتمسك بحقه. إنه امتحان التاريخ في أن تكون مسيحياً ــ أو إنساناً ــ الآن هنا.