رُصِفت الطريق بالزجاج. هذه الألواح الشفافة التي كانت تزنّر أبنية شارع «باب ادريس» ومحيطه، ارتمت أرضاً، فتناثرت حبيبات صغيرة لوّنت الشوارع بالفضيّ. وما بقي صامداً منها، راح يتعرّض لطرقات عمّال جرى استدعاؤهم بسرعة إلى مكان الانفجار. من الطبقات العليا للأبنية ذات النوافذ الكبيرة، كان العمّال يطلّون برؤوسهم ليتأكدوا من خلوّ الطرقات من المارّة، قبل أن يدفعوا بالمزيد من ألواح الزجاج إلى الأرض.
يقلّ الزجاج كلّما اقتربت من مكان الانفجار، لتزداد أعداد الصحافيين وسيارات النقل المباشر المرافقة لهم. يقفون عند حدود الأشرطة الصفراء، ويبثون رسائلهم المباشرة على الهواء، وفي الخلفية عناصر الشرطة القضائية في مسرح الجريمة يقومون بعملهم. يقدّم بعض الناجين شهاداتهم، قبل أن يغادروا المكان وفي عيونهم حسرة على ما ألمّ به من تدمير.
كل شيء تضرّر في المكان المجاور لبناية «ستاركو» في وسط بيروت. هذه البناية «التاريخية»، التي بناها فريق من المهندسين السويسريين مطلع ستينيات القرن الماضي، وميّزوا طبقتها الأرضية بمجموعة من المحلات، شكلت يومها امتداداً لفكرة الأسواق التي كانت موجودة في المنطقة قبل الحرب الأهلية. وعندما أعيد ترميم المبنى بعد الحرب، جرت المحافظة على هذا التصميم، وبقيت المحلات الصغيرة أسفل المبنى. هنا، يوجد العدد الأكبر من المتضرّرين من الانفجار. فوسط بيروت يكاد يكون خالياً من السكان، حتى يمكن القول إنه غير مفتوح إلا «لمن له عمل». معظم الناجين كانوا في رحلتهم اليومية بحثاً عن لقمة عيشهم. ومن لحق بهم إلى مكان الانفجار، هم أهاليهم الذين لم يستطيعوا الانتظار حتى تعود شبكة الهاتف إلى العمل ليطمئنوا إلى سلامتهم.
العبارات نفسها تتكرّر على الألسنة، مباشرة أو عبر الهاتف «إيه، الحمدلله، زمطت من الانفجار»، «رفيقي جُرح، الزجاج انكسر». حتى الرواية عن كيفية وقوع الانفجار كانت واحدة: الصوت القوي، الشكوك بأن يكون الرئيس نجيب ميقاتي هو المستهدف لأن مكاتبه موجودة في المكان، الجرحى والأشلاء، عدم التصديق لأن المنطقة توصف بالآمنة... وهي ذاتها الشهادات التي تكرّرت إثر كلّ انفجار تعرّض له لبنان في مناطق مختلفة منه.
أمس، لم ينشغل الناجون من الانفجار في سرد حكاية النجاة من الموت. تعالوا على حكاياتهم الشخصية، ليطرحوا أسئلة وجودية باتت رقعتها تتسّع يوماً بعد يوم على مساحة الوطن. «بتّ مقتنعاً اليوم أنني أعيش بالصدفة» يقول جهاد قلعجي. الكاتب والمؤرّخ، الذي يدير مكتبة تضمّ نوادر المخطوطات والكتب المعنية بالدول المشرقية، لم يصدّق كيف أنه لم يصب بأي خدش رغم كل ما تناثر عليه من زجاج في مكتبته الصغيرة «نوادر». تساقطت الكتب، زينة الميلاد، الزجاج، وبقي هو سليماً لا يشعر إلا بحرارة قوية تملأ المكان قبل أن يستوعب أن انفجاراً وقع «وأنا الذي كنت أقول لعائلتي إني سأقيم في مكتبتي في حال وقعت حرب في بيروت، لأنه كان أكثر الأمكنة أمناً في اعتقادي». هذا ما كانت تعتقده بتول أيضاً، تقول لنا بعد أن تردّ على اتصال هاتفي يطمئن إليها. تجيب ضاحكة «إيه...زمطت.. شفتي؟...». تنهي اتصالها وتعود إلى توضيب الكتب الثمينة، لنقلها إلى بيت قلعجي، إذ لا إمكانية لتركيب زجاج في اليوم نفسه، عدا عن أن كلفته تتجاوز الألف دولار. هذا ما نقلته جارتهم في المحلّ المجاور. الأخيرة مضطرة إلى تركيب الزجاج للحفاظ على بضاعتها التي يصعب نقلها. تتساءل عن الكلفة والتعويض، فتُنصح بالتقاط الصور، إذ قد تدفع الدولة تعويضات لاحقاً.
ينتهي الحديث عن التعويضات، ويعود الحديث وجودياً، على وقع عبارات «الحمدلله على السلامة». يشعر المستمع إلى الأحاديث التي دارت إنه لم يعد من داع لخطب الجمعة، أو عظات الأحد بعد الآن. لقد نجحت عمليات التفجير والاغتيالات في ما فشلت فيه كلّ الدروس الدينية التي تذكّر الإنسان بأنه ميت لا محالة. كلّ يوم إضافي يعيشه اللبنانيون، هو يوم زائد بالنسبة إليهم. حتى يمكن في لحظة أن يتغير حديث زوجين في السيارة التي تقلّهما معاً إلى العمل، من السؤال عن طبق العشاء، إلى اتخاذ قرار بعدم الإنجاب. هذا ما حصل مع ملاك صباح أمس، فيما رأت بتول أن من الغباء بعد اليوم التفكير بالزواج وتأسيس عائلة لا أحد يعرف أي مستقبل ستعيشه.
الحديث عن الموت، في حضرة مخطوطات يعود عمرها إلى القرن السابع عشر، يكاد يكون مضحكاً مبكياً. في هذه المكتبة الواقعة اسفل مبنى «ستاركو» كان يمكنك أن تجد الطبعة الأولى من رحلة الشاعر الفرنسي لا مارتين إلى الشرق (1835). وفيها عشرات المخطوطات السريانية التي يتجاوز عمرها الـ400 عام، عدا أهم الكتب المشرقية التي طبعت في أوروبا... ونسخة فريدة من أول قصة مصوّرة لسندريللا باللغة الانكليزية. «كلّ هذا الإنتاج الفكري كفر... والانفجار الذي وقع على بعد خطوات من المكان هو الإيمان الجديد» يقول قلعجي ساخراً، من دون أن تكون لديه أدنى فكرة عن هوية مرتكبي جريمة أمس.