الأغنية الإخوانية «ثورة دي ولا انقلاب؟» تصلح مدخلاً للحديث عن الإعلام أيضاً. سؤال ثورة/ انقلاب الذي فرضته أحداث «30 يونيو» ألقى بظلاله أول ما ألقى على الميديا. الإغلاق التام والفوري للفضائيات الدينية كان فعلاً يسهل إدانته من ناحية، وقد أدانه الحقوقيون، ويسهل تبريره من ناحية أخرى بالنظر إلى شرائط القنوات المليئة بالتحريض على الأقليات المسيحية والشيعية، فضلاً عن الخصوم السياسيين. في إحداها (قناة «الرحمة»)، يرد الشيخ أيمن صيدح على تساؤلات بعض «المتحمسين» بخصوص رأي الدين في اغتيال باسم يوسف. يجيب الشيخ بابتسامة سمحة: «ليس الآن ليس الآن»!
لكن باسم يوسف، أو برنامجه «البرنامج»، توقف/ أوقف أيضاً، بعد أسبوع واحد على انطلاقه في عهد «نظام 30 يونيو». وقيل إنّ محطة cbc هي السبب، وأيّد بيان أصحابها ذلك القول «لرفضها الإساءة إلى الرموز الوطنية»، لكن ــ بديهياً ــ لم يصدق أحد أنّ المحطة أوقفت من تلقاء نفسها برنامجاً هو الأعلى مشاهدة في العالم العربي، ويدرّ عليها الملايين الإعلانية. لمصر رئيس مؤقت هو عدلي منصور، لكن ما يُقال صراحة أنّ «البرنامج» توقف في «عهد السيسي»، وفي ذلك ملمح «انقلابي» لا شك فيه.
لكن قبل الانسياق إلى إصدار الأحكام، ينبغي الرجوع قليلاً إلى الوراء. في أيار (مايو) 2013، أي بعد نحو عام من حكم الرئيس الإخواني محمد مرسي، وقبل شهر من عزله، أصدرت «مراسلون بلا حدود» تقريرها السنوي حيث احتلت مصر تحت حكم «الرئيس المنتخب» موقعاً متدنياً للغاية (المركز 158) في قائمة حرية الصحافة. موقع شكّل تقدماً طفيفاً (8 مراكز) عن العام الأسبق تحت حكم المجلس العسكري، لكنه بقي لا يليق إطلاقاً ببلد يفترض أنّه تحت «حكم ديموقراطي»، فإذا به يقبع على بعد 21 مركزاً فقط من الموقع الأخير (أريتريا 179)، ومتأخراً 20 مركزاً عن شقيقة الربيع العربي تونس التي جاءت في المركز 138 رغم تراجعها 4 مراكز عن العام الأسبق. لكنهما بقيا ــ مصر وتونس ــ في مركزين غير مشرفين مقارنة بالآمال المعقودة، بسبب ما وصفه تقرير «مراسلون» بـ«فراغ قانوني، وتعيينات على رأس المؤسسات الرسمية، واعتدءات جسدية، ومحاكمات متكررة».
وبعد شهر من اليوم، يبدأ الاستفتاء على مشروع الدستور المصري الجديد الذي ألغى «العقوبات السالبة للحرية في جرائم النشر والعلانية»، وهي خطوة متقدمة ولو استثنيت منها «الجرائم المتعلقة بالتحريض على العنف أو بالتمييز بين المواطنين أو بالطعن في أعراض الأفراد، فيحدد القانون عقوباتها». وترجمة ذلك الاستثناء، هو إيقاف الحبس في القضايا من قبيل «سب وإهانة الأفراد أو الرؤساء...» واستبدالها بالغرامة، وإبقاء الحبس في حالة الاتهامات المالية والأخلاقية غير المستندة إلى دليل.
غير أن ذلك التقدم الذي يعدّ ــ بلغة الرياضة ــ تقدماً بالنقاط لا بالضربات القاضية، إذ يحقق تحسناً نسبياً ولا يلغي جذور المشكلات كـ«مبدأ الحبس في قضايا النشر»، هو مثال لا على الدستور فحسب، بل على الوضع السياسي برمته الذي يستعيد فيه الشارع هدوءه بالتدريج، وتتقدم فيه العملية السياسية ببطء، مع بقاء النار تحت الرماد، وآلاف المعتقلين في السجون، والعمليات الإرهابية هنا وهناك، وحفنة قوانين التظاهر ومكافحة الإرهاب المعدة للتطبيق. إنه وضع «من يصرخ أو يستسلم أولاً»، وهو وضع قد يجرى فيه استفتاء ويقر دستور وتصدر صحف وقنوات، لكنه ــ تحت سيف الأوضاع الأمنية الجدّية والمتوهمة ــ أقرب إلى جوّ الحروب، جوّ «معي أم ضدي؟» وهو مناخ لا يصلح للصحافة ولا تصلح الصحافة فيه.