يذيع صيت وزير الزراعة أكرم شهيب، بين المنتجين المحليين، بالتراجع عن قراراته، ولا سيما ما يحمي منها الانتاج المحلي. قراراته لا تدوم طويلاً، إذ إنه سرعان ما يتراجع عنها بفعل الضغوط التي تمارس عليه، سواء الضغوط الخارجية أو المحليّة. بعضهم يعتقد أن شهيب ضائع بين رغبته في إظهار نفسه محابياً للمزارعين والمنتجين المحليين، وقناعاته بضرورة الحفاظ على العلاقات مع الدول «الصديقة» أو التجار الكبار اصحاب النفوذ والحمايات السياسية. هذا الأمر ينطبق تماماً على القرارات الصادرة عنه لجهة إخضاع استيراد الأجبان لإجازة استيراد مسبق، وإخضاع استيراد حبّ الزيتون وزيت الزيتون لإذن مسبق أيضاً.
يأتي هذا الصيف والشتاء تحت سقف وزارة الزارعة، برغم أن إجازة الاستيراد ليست سوى أداة بسيطة لحماية المنتجين المحليين من المنافسة الخارجية، اذ انها لا تمنع الاستيراد بل تضعه تحت سلطة "استنسابية" يمارسها الوزير ويحافظ من خلالها على مصالح معينة. وهذه الوسيلة، كي تكون فعالة، عليها الّا تستند الى "الثقة" بالوزير وقراراته بل يفترض ايضا أن تقترن بقيود تقوم على تحديد الكميات المسموح بإدخالها ودراسة السوق المحلية وحاجاتها وظروف الانتاج ومستويات الكلفة. الأداة الأمثل لفرض حماية كهذه هي الرسوم الجمركية التي لم يعد لبنان قادراً على رفعها بسبب انخراطه "الانبطاحي" في منظمة التجارة العالمية واتفاقيات التجارة الحرة. لذا، لم يعد أمام المنتجين المحليين أدوات كثيرة للحماية من الخسائر التي تسببها منافسة المنتجات الأجنبية الواردة إلى لبنان بسهولة برغم أنها مدعومة الكلفة في بلدان منشئها.


استيراد الأجبان

على أثر شكوى تقدّم بها صانعي الأجبان في لبنان إلى وزير الزراعة أكرم شهيب، حسم الوزير خياراته باللجوء إلى إصدار قرار يخضع استيراد الأجبان إلى إذن استيراد مسبق. حسابات الوزير لم تكن تأخذ بالحسبان أن الملحق التجاري السعودي صالح الغنّام ستقوم قيامته على هذا القرار الذي يؤدّي إلى تغليب مصلحة المصانع المحلية على المصانع الأجنبية، وأبرزهم شركة المراعي السعودية، فأصدر الوزير القرار الرقم 147/1 في 26 شباط 2015. ينصّ القرار على أن الأجبان البيضاء من حلّوم ودوبل كريم وعكاوي وعكاوي مخمّر (تشيكي) ومشلّلة، ومجدولة، وبلغاري، ومثيلاتها من الأجبان البيضاء، إضافة إلى المنتجات الغذائية المركبة من الحليب و/أو منتجات الحليب ومكوّنات أخرى غير حليبية... كلّها تخضع إلى اذن استيراد مسبق صادر عن وزير الزراعة بناء على مطالعة مديرية الثرورة الحيوانية. وحدّد القرار آلية الاستفادة من مضمونه من خلال تقديم مجموعة مستندات تثبت وجود المصنع وفواتير تحدّد بلد المنشأ، على أن تدرس الطلب «لجنة مؤلفة من مدير الثروة الحيوانية ومصلحة الاقتصاد والتصنيع والتسويق ومصلحة مراقبة التصدير والاستيراد والحجر الصحي"، «وتُستثنى من القرار الارساليات التي ثبت شحنها قبل نشر القرار».
ثم أتبع شهيب قراره الأول، بقرار ثان رقمه 204/1 في 16 آذار 2015 وينص على أن إدخال الإرساليات التي ثبت شحنها قبل صدور القرار المذكور تخضع لموافقة استثنائية من وزير الزراعة.
خضع وزير الزراعة لضغوط السفارة السعودية و"اللوبيات" المحلية

أثار القرار حفيظة الغنّام الذي عقد مجموعة من الاجتماعات مع رئيس غرفة التجارة والصناعة والزراعة في بيروت وجبل لبنان محمد شقير، ومارس الرجلان ضغوطاً على شهيب من أجل التراجع عن قراره بذريعة أنه يُضرّ بالعلاقات السعودية اللبنانية، وأنه غير متلائم مع اتفاقيات التجارة العربية ويعدّ من القيود الفنية الممنوع استعمالها في إطار الاتفاقية العربية. فلم يطل الأمر حتى صدر قرار التراجع. ففي 22 حزيران 2015، أصدر شهيب قراراً رقمه 569/1 يتعلق بالغاء القرار الرقم 147/1. قرار الالغاء جاء بمادة واحدة تشير إلى أنه «يلغى القرار الرقم 147/1 تاريخ 26/2/2015 المتعلق باخضاع استيراد الأجبان البيضاء والمنتجات الغذائية المركبة من الحليب او من منتجات الحليب ومكونات أخرى غير حليبية (أبدال الأجبان) إلى اذن مسبق وتعديلاته».
اتُّهم شهيب بمعاداة الصناعة الوطنية وبالرضوخ للضغوط الخارجية، وبقيت أصوات المصانع المحلية ترتفع مطالبة بإنصافها من الواردات المدعومة الكلفة، فمن المعروف أن الصناعة في السعودية مدعومة الأكلاف سواء لجهة دعم الطاقة التي تمثّل جزءاً أساسياً من الكلفة، أو دعم مربي الأبقار والأغنام. وبالتالي كان على شهيب أن يقوم بخطوة ما تراعي أمرين؛ الضغوط السعودية، والمطالبات المحلية. وبالتالي وجد شهيب ثغرة يمكن النفاذ منها وتكمن في منح الصناعة المحلية قراراً موقتاً ولفترة محدودة لا تتيح لهم منافسة الأسواق الخارجية، فأصدر القرار 1216/1 بتاريخ 30/12/2015. هو مشابه تماماً لنصّ القرار الرقم 147/1 مع تعديل في المادة الأخيرة التي نصّت على أنه «يعمل بهذا القرار فور نشره ولمدّة ثلاثة أشهر من تاريخه ويبلغ من يلزم». نُشر القرار في 14/1/2015، أي إن فترة الاذن المسبق شارفت على نهايتها في 14/4/2015 من دون أن يشهد الأمر اعتراضاً من المحلق التجاري السعودي، أو من شركة المراعي، اللذين يعلمان أن قراراً كهذا لن يعزّز تنافسية الصناعة المحلية، ومن دون أن يلاحظ أحد نتائج هذا القرار، إذ إن المنتجات الأجنبية لا تزال معروضة على رفوف السوبرماركت، ولا تزال تنافس المنتجات المحلية من دون أي عائق.

استيراد الزيتون وزيته

الأمر لم يكن مختلفاً كثيراً بالنسبة لاستيراد حبّ الزيتون وزيت الزيتون. فالوزير لعب على الحبلين، أي على مزارعي الزيتون، وعلى مستوردي الزيت، وتمكّن من فرض توازن ما بينهما يميل لمصحلة التجّار في غالبية الأوقات، محاولاً الإشارة إلى أنه لم يحابِ جهة بالكامل على حساب جهة ثانية كما فعل بالنسبة لقرار استيراد الأجبان البيضاء. فمن المعروف ان مزارعي الزيتون يطالبون منذ فترة طويلة بحماية إنتاجهم من المنافسة الخارجية ومن الإغراق الذي يتعرضون له في كل موسم من كميات الزيتون وزيت الزيتون التي تأتي بطريقة نظامية إلى لبنان أو تأتي مهربة. هذا المطلب المزمن لدى مزارعي الزيتون في لبنان، يضغط على اسعار المبيع تحت الكلفة، ويكبّد المزارعين خسائر سنوية كبيرة نتيجة الغشّ والتلاعب والاستيراد الهائل، وهم كانوا يقدّمون الشكوى تلو الأخرى عند أبواب وزراء الزراعة من دون أن يتمكنوا من الحصول على دعم. وبالتالي كان لافتاً أن يصدر وزير الزراعة أكرم شهيب في 18 تشرين الثاني 2015 القرار الرقم 1102/1 الذي يخضع استيراد حبّ الزيتون وزيت الزيتون لـ«إجازة استيراد مسبقة صادرة عن وزير الزراعة على ان تطبق المواصفات الفنية المحدّدة في القرارت الصادرة كافة. ويقدّم أصحاب العلاقة طلبات الاستيراد إلى مكتب وزير الزراعة. ويبلغ هذا القرار حيث يلزم ويعمل به فور نشره في الجريدة الرسمية».
لم تمض بضعة أسابيع على صدور هذا القرار، حتى أصدر شهيب قراراً ثانياً في 26/1/2015 رقمه 50/1، وينصّ على أن «يخضع استيراد حبّ الزيتون وزيت الزيتون طيلة الفترة الممتدة من 15 أيلول حتى نهاية شهر كانون الثاني من السنة التالية لإجازة استيراد مسبقة صادرة عن وزير الزراعة، على أن تطبق على المنتج المستورد المواصفات الفنية المحدّدة في التشريعات النافذة».
بالنسبة إلى مزارعي الزيتون في لبنان، فإن موسم القطاف يمتدّ من 10 تشرين الأول حتى نهاية كانون الأول، وبالتالي فإن هذه الفترة ليست فترة الترويج وبيع الكميات المنتجة، بل يكون فيها المزارعون منكبين على موسم القطاف، علماً بأن شكواهم من منافسة المنتجات الأجنبية المماثلة ليست محصورة بهذه الفترة فقط، بل هي تمتدّ على كامل السنة، وبالتالي فإن تعديل القرار الأول، وصدوره بشكله الأخير، يأتيان كرمى لعيون التجار الكبار المعروفين بنفوذهم السياسي وقدرتهم على التحكم في الأسعار من خلال الكميات الهائلة التي تضخّ في السوق. كان الأجدى بهذه القرارات أن تفيد المنتجين المحليين لا ان تكون أداة للضغط عليهم ولابتزازهم.




الاستيراد: القيمة والوتيرة

تظهر إحصاءات الجمارك اللبنانية، أن لبنان استورد في عام 2015 نحو 32 ألف طن من الأجبان بأنواعها المختلفة التي تبلغ قيمتها 157.4 مليون دولار. حصّة السعودية من هذه الواردات تبلغ 8 ملايين دولارأو ما يوازي 5% من مجمل الواردات، وهي توازي ما يستورده لبنان من بلغاريا وبولونيا وتشيكيا والدانمارك. الحصّة الأكبر تعود إلى المغرب بنسبة 24% من مجمل الواردات، وهنغاريا بنسبة 13% وفرنسا بنسبة 10%.
أما بالنسبة لواردات زيت الزيتون، فهي بلغت 16.7 مليون دولار في نهاية 2015 وقد بلغت حصّة سوريا 37%، وحصّة تونس 61%، والسعودية 2%. وتظهر إحصاءات الجمارك أن الواردات الشهرية تبلغ على النحو الآتي: 1.5 مليون دولار في كانون الثاني، مليون دولار في شباط، 2.9 مليون دولار في آذار، 795 ألف دولار في نيسان، 2.5 مليون دولار في أيار، 1.8 مليون دولار في حزيران، 1.9 مليون دولار في تموز، 595 ألف دولار في آب، 944 ألف دولار في أيلول، 1.2 مليون دولار في تشرين الأول، مليون دولار في تشرين الثاني، 619 ألف دولار في كانون الأول.