كما كان متوقعاً، اختتمت محادثات «جنيف 3» بين إيران ومجموعة «5+1» بدخان رمادي، يسمح لكل من الطرفين بادعاء انجاز من نوع ما، وإن كان يبقى المهم فيه أنه أطلق عجلة محادثات تستهدف انهاء أزمة الملف النووي، وأنه يسمح بفتح حوار حول باقي الملفات الخلافية في المنطقة، بعدما خفض مستوى التوتر بين الأطراف.
وبناءً عليه، باتت إدارة باراك أوباما قادرة على القول إنها منعت إيران من تخصيب اليورانيوم إلى مستويات مقلقة، وفرضت عليها التخلص من مخزونها من اليوارنيوم 20 في المئة، ورقابة صارمة على المنشآت النووية مع وقف العمل بمنشآت أراك الاستراتيجية. في المقابل، تستطيع إدارة حسن روحاني المفاخرة بأنها فرضت اعترافاً دولياً بحق إيران في تخصيب اليورانيوم، ولو بنسبة لا تتجاوز الــ5 في المئة، وانتزعت تعهداً برفع العقوبات كلها في نهاية العملية التفاوضية، وفرضت رفعاً جزئياً لبعض العقوبات الحيوية، كما أنها صدّعت جدار تلك العقوبات بما يسمح بانهياره مع الوقت تلقائياً.
كان واضحا منذ البداية أن كلاً من الطرفين يسعى بكل السبل إلى اتفاق إطار، إلى بيان مشترك وصورة، كل لأسبابه، لكنّ الطريق لم تكن سهلة كما اعتقد البعض. ثلاث جولات من التفاوض الماراتوني، استغرقت الأخيرة فيها خمسة أيام، وتطلبت تدخلات من اعلى المستويات، كان في طليعتها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
انجاز لا شك أنه جرى بسرعة قياسية، قياساً بسنوات من التفاوض غير المجدي.

خطة المراحل الثلاث

كانت الجولة الأولى من التفاوض قد بدأت في جنيف في 15 تشرين الأول على خلفية الإشارات التي أطلقتها إدارة روحاني. ذهب المفاوضون الإيرانيون، بعد نقل الملف النووي من المجلس الأعلى للأمن القومي إلى وزارة الخارجية، بما يمكّن العهد الجديد من الإمساك بكل مفاصله، بإذن معلن من المرشد علي خامنئي، الذي أمهلهم فترة سماح مدتها سنة للتوصل إلى نتائج مرضية في هذا الملف.
حالما جلس الأطراف جميعاً إلى طاولة «5 + 1»، بادر الوفد الإيراني إلى عرض خطة ثلاثية المراحل، مبنية على أساس استراتيجية «الخطوة خطوة» التي سبق أن عرضتها طهران في خلال مفاوضات ألماآتا.
المرحلة الأولى مهمتها التفاهم على هدف مشترك. اعتمد المفاوض الإيراني المنطق التالي: كل منا يريد أمراً ما من خلال هذه المفاوضات. نحن نريد برنامجاً نووياً سلمياً يجري في خلاله التخصيب على أراضينا وأن ترفعوا العقوبات التي فرضتموها علينا. في المقابل، أنتم تريدون اثباتات بأن برنامجنا النووي سلمي، والقدرة على التحقق من ذلك ميدانياً. المرحلة الثانية، بحسب العرض الإيراني، العمل على تنفيذ هذا الهدف المشترك، الذي جرى الاتفاق عليه بين الطرفين. أما المرحلة الثالثة، فوجوب حصد نتائج هذا التفاهم خلال سنة كحد أقصى. نوقش العرض بشكله العام وجرى التفاهم على ضرورة التركيز على وضع إطار للمفاوضات، لكن أي اتفاق لم يحصل خلال تلك الجولة. كانت الظروف لم تنضج بعد.

عندما تدخل فابيوس

لم تمض أسابيع ثلاثة حتى عاد المفاوضون في الثامن من تشرين الثاني إلى الطاولة نفسها، حيث بدا واضحاً، من الجولة السابقة، أنها كانت مفاوضات أميركية ــ إيرانية حصراً، وأن الأطراف الأخرى ليست سوى ديكور ليس إلا. في «جنيف 2» حصل الاختراق الكبير خلال لقاء وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف مع وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون. في خلال النقاش بين الجانبين، فاجأت أشتون الزائر الإيراني بجملة كانت معبرة جداً: «واضح أننا متفقون على أشياء كثيرة. لنوقع اتفاقية في ما بيننا»، قبل أن ترفع سماعة الهاتف وتتصل بوزير الخارجية الأميركي جون كيري، طالبة منه القدوم إلى جنيف. سُرب الخبر وسرعان ما تحول إلى إعلان رسمي بأن كيري في طريقه إلى جنيف، وانه يمكن توقيع اتفاق. سارع وزراء «5 + 1» إلى حزم حقائبهم مسرعين الخطى إلى مكان الاجتماع. لا يريدون اتفاقاً في غيابهم.
كانت مسودة الاتفاق التي عرضها ظريف وقبلها كيري تتضمن النقاط التالية:
1- إقرار وتسليم بحق إيران في أن تمتلك برنامجاً نووياً سليماً. كانت هذه النقطة مهمة بالنسبة إلى الإيرانيين. قالها ظريف خلال المفاوضات: «لا نريد بعد اليوم أي نقاش حول هذا الأمر. أصبح خلف ظهورنا».
2- إقرار وتسليم بحق إيران في تخصيب اليورانيوم على أراضيها. وهو مبدأ، كما سابقه، أصر الإيرانيون على أن لا تفاوض في شأنه، وإن أبدوا مرونة في مستوى التخصيب الذي «يتفق عليه خلال عملية التفاوض» شرط ألا يقل عن نسبة 5 في المئة.
3 - في ما يتعلق بالضمانات، أكد الإيرانيون أنهم أعضاء في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وأنهم وقعوا البروتوكول الملحق بها، وبالتالي أنشئوا فريق رقابة من هذه الوكالة، ونحن نرحب به في طهران».
4- ندرك أنكم حساسون من منشآت ناتانز وأراك وفوردو، لذلك نحن نسمح لفريق الرقابة الذي ستنشئونه بدخولها وتفتيشها على نحو دوري، فإن كانت متوافقة مع معايير الوكالة كان به، وإن كانت هناك تجاوزات، يحق لكم القيام بما ترتأون.
تقرر عقد اجتماع لتوقيع الاتفاقية، لكن حالما جلس وزراء الخارجية إلى الطاولة، طلب وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس أن يرى الاتفاقية قبل التوقيع. أمسك بها وقرأها سريعا قبل أن يضيف: «لدينا بعض التغييرات». جرى التفاهم على أن يذهب فابيوس ويعود في اليوم التالي مع التغييرات التي يريدها، وهكذا كان.
عند التئام المجموعة في اليوم التالي، فوجئ الإيرانيون بأن فابيوس يطلب ادخال تعديلات جوهرية على نص الاتفاق، يمكن تلخيصها في ما يلي:
1 - وقف العمل بمنشأة المياه الثقيلة في أراك لمدة ستة أشهر، بانتظار أن يتأكد الغرب من أن البرنامج النووي الإيراني سلمي مئة في المئة.
2- منع عمليات التخصيب على الأراضي الإيرانية.
عندها تدخل ظريف، معلنا أن الوفد الإيراني لا يقبل مسودة فابيوس لأنها حملت تعديلات أساسية، وأن الوفد مخول فقط توقيع التفاهم السابق، الذي أُبرم مع جون كيري، ويناءً عليه فهو مضطر إلى العودة إلى طهران للتشاور.

لماذا «أراك»؟

منشأة أراك هي منشأة نووية قيد الانجاز، لا يزال بدء العمل فيها يحتاج إلى نحو ستة أشهر. هي منشأة مياه ثقيلة تسمح بانتاج البلوتونيوم الذي يؤدي دوراً رئيسياً في عمل أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم. حتى هذه اللحظة، لا يزال الإيرانيون يأتون بتلك المادة الحيوية لبرنامجهم من السوق السوداء وعبر عمليات تهريب، لكن حالما ينتهي العمل في منشأة أراك، تكون الدورة النووي قد أصبحت إيرانية بالكامل، وما عاد الإيرانيون بحاجة إلى أي شيء من خارج حدودهم.

ابحثوا عن المال

التقديرات في إيران تؤكد وجود نوعين من الأسباب خلف موقف فابيوس في «جنيف 2»، الأول سياسي، فيما الثاني اقتصادي.
تسعى باريس، التي تواجه حملة غير مسبوقة في الداخل الفرنسي وصبغة قوية في الخارج، إلى التخلص من السمعة التي اكتسبتها على مدى الأعوام الماضية بأنها ذيل للولايات المتحدة. أراد فابيوس القول إن إدارة فرانسوا هولاند مستقلة وغير تابعة لأحد. وقد نجح في تحقيق هدفه هذا بدليل تصريحاته التي أعقبت «جنيف 2»، والتي كانت أشبه باعلان الخيار الفرنسي المستقل. فضلاً طبعا عن زيارة هولاند التي كانت مرتقبة إلى اسرائيل بعدها بأيام، والتي أرادت باريس انجاحها بشتى الوسائل.
أما من الناحية الاقتصادية، فمعروف أن فرنسا تمتلك إحدى أفضل التقنيات النووية في العالم، وهي تريد أن تبيع منتجاتها النووية لإيران. كما أن باريس سعت، بين «الجنيفين»، إلى تقديم عروض مغرية لدول الخليج، نوع من مقايضة تعرقل من خلالها فرنسا أي اتفاق نووي مع إيران في مقابل صفقات أسلحة بمليارات الدولارات.

زيارة أمانو

حرص الإيرانيون على ألا يغادر ظريف جنيف إلا بعد قبول رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية يوكيا أمانو زيارة طهران. حرصوا على حسن استقباله وعلى أن يوقعوا معه اتفاقية تسمح لمفتشي الوكالة بدخول منشأتي ناتانز وأراك. أرادوا أن يوجهوا رسالة إلى الغرب خلاصتها: نحن قمنا بالجزء المطلوب منا، عليكم الآن أن تنفذوا الجزء المتعلق بكم في إطار سياسة الخطوة خطوة. تعمد الإيرانيون عدم ادخال منشأة فوردو في الاتفاق مع أمانو. أرادوا إبقاء أوراق تفاوضية في حوزتهم. هم يدركون أن «الغرب غدّار» و«يتملص من الاتفاقات سريعاً».

العجالة الأميركية

كان الإيرانيون مطمئنين طوال أسابيع المفاوضات. هم يدركون أن الأميركيين مستعجلون للانتهاء من النووي للغوص في باقي الملفات. يعرفون ذلك من عدد الرسائل الأميركية التي بُعث بها إلى طهران عبر قنوات عديدة قبل الانتخابات الرئاسة الأخيرة. ومن كلام الرئيس باراك أوباما مع الشيخ حسن روحاني في خلال المكالمة الهاتفية الشهيرة، ومن خلال كلام جون كيري مع ظريف في أكثر من مناسبة. قال الوزير الأميركي لنظيره الإيراني غير مرة: نريد أن نتحدث معكم في جميع الملفات، بما فيها الملف البحريني، الذي ندرك مدى حساسيته بالنسبة إليكم. كان دائما يشير إلى ملفات ستة هي: لبنان وسوريا ومصر والبحرين واليمن والعراق.
الجواب الإيراني كان بسيطا: نحن قمنا بما علينا من خطوات، والآن جاء دوركم. لا مشكلة لدينا في بحث كل هذه الملفات، لكن يجب عليكم أولاً أن تثبتوا حسن نيّاتكم في الملف النووي. وهذا يحصل عبر خطوتين: الأولى، جميع الأموال المجمدة في الخارج يجب أن تعود. أما الثاني، فيجب الغاء جميع العقوبات المفروضة على الطيران. إذا نفذتم هاتين الخطوتين، فعندها يمكن أن نتقدم في الملف النووي، ونبحث في الوقت عينه الملفات الستة التي تحدثتم عنها.
حتى كتابة هذه السطور لم تكن قد رشحت بعد كواليس ما جرى في جنيف 3، لكن الأكيد أن الاتفاق المعلن، الذي مر على ما يبدو بمخاض عسير، سيمثل نقطة تحول في المنطقة، وبداية لمرحلة معالمها ستتضح خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.